نصرالدين قاسم
ا نصرالدين قاسمقطر الدولة الجزيرة، لم تكن شيئا مذكورا، قبل بداية الألفية. أرادت أن تكبر بعد انقلاب الأمير الابن حمد بن خليفة آل ثاني على الأمير الوالد خليفة بن حمد آل ثاني (رحمه الله)، في السابع والعشرين من جوان عام ألف وتسعمئة وخمسة وتسعين.. دون الخوض طبعا في ملابسات نجاح الانقلاب رغم الرفض الخليجي والسعي السعودي لإفشاله.. الفكرة كانت مبتكرة ومثيرة للانتباه والإعجاب، لأول مرة تسعى دولة لا تملك أي مقوم من مقومات القوة لفرض نفسها على الساحة الدولية، تناقر الكبار دوليا في عديد القضايا والأزمات..قدّر الأمير الابن وفريقه أن قناة إعلامية كبيرة تتناول قضايا الأمة والقضايا ذات الصلة بموضوعية وجرأة وحرية مع تنوع الآراء والمواقف هي أقصر الطرق للوصول إلى العالمية والشهرة الكبيرة..
لا حرية في بيئة الاستبداد
اختيار الإعلام وسيلة لفرض الذات كان يبدو خيارا غريبا وغير موفق على اعتبار أن نجاح الإعلام خاصة إذا التزم بعرض الرأي والرأي الآخر، مرتبط أساسا بشيوع الحرية والتعددية يعني بوجود أجواء ديمقراطية حقيقية.. وتلك شروط لم تكن متوفرة لا في قطر المجتمع القبلي المحافظ، ولا في بيئتها المحيطة المتسمة بأنظمة ملكية استبدادية مغلقة لا مكان فيها للحريات العامة والفردية والحقوق الإنسانية..فما بالك بحرية التعبير واحترام الرأي والرأي الآخر. الرهان كان يبدو خاسرا، لكن التصور كان ناضجا وتفاصيل الفكرة محددة حرية تعبير تتعلق في مناقشة قضايا الآخر، وفسح المجال للتعبير عن الرأي والرأي الآخر في تلك القضايا بعيدا عن المشهد القطري إلا ما تعلق بتلميع دور الإمارة الرائد في الوساطة أو الانتصار للأطراف المستضعفة، والسعي الحثيث للانتصار للقضايا العادلة خاصة القومية منها.. في فلسطين وأفغانستان والقاعدة والعراق وغيرها من الأزمات بدت قطر عبر الجزيرة وكأنها في الطرف النقيض للموقف الأمريكي، تواجه سياستها وتحركاتها، أضعف دولة في العالم تناقر أكبر دولة في العالم.
الجزيرة طموح أميري
توجه « تقدمي » كان يتماهى وقناعات الأمير حمد وطموحاته، فقد عُرف عنه في شبابه أنه كان مناصرا للثورات العربية وحركات التحرير.. مقومات تؤهله لأداء دور ما يسمى بالديبلوماسية بالوكالة الذي انتهجته أمريكا وكانت تبحث عن « شريك » يؤدي الدور باقتدار.. فالولايات المتحدة تحرص على علاقات تواصل وقنوات اتصال مع كل الأطراف الدوليين بما فيها طبعا المصنفون أمريكيا في خانة الخصوم والأعداء من حركات التحرر إلى ما تصفهم بالمنظمات الإرهابية مرورا بما تعتبرهم دولا مارقة أو داعمة للإرهاب.. فعندما ترغب في محاورتهم أو إيصال رسائل إليهم تلجأ إلى المتعامل السياسي الذي اختارته لهذا الدور.. وكانت قطر أفضل الخيارات..على ضوء ذلك نسجت قطر علاقات طيبة وبتزكية أمريكية مع بن لادن وما يسمى القاعدة وطالبان وغيرها من أعداء أمريكا في أفغانستان،وكانت الجزيرة القناة الإعلامية الذراع الرئيسية والأداة في تثبيت الدور الدبلوماسي بالوكالة. ولأن الدور كان يتماهى وقناعات وطموحات الأمير فقد حدثت بعض الانفلاتات في مواقف خرجت عن السيطرة الأمريكية أو شكلت مزايدة غير مرغوب فيها أمريكيا كما حدث في الحرب على العراق أو مختلف الحروب الصهيونية على غزة أو جنوب لبنان..
من القناعات إلى الميكيافيلية
بعد تنحي الأمير الابن حمد وفريقه في ظروف لم تكشف عن كل أسرارها وتفاصيلها، وتولية ابنه الأمير الحفيد تميم بن حمد آل ثاني، على رأس الإمارة احتفظت قطر والجزيرة بدورهما، ولكن بحماس أقل ظهر فيه التمسك بالدور دون مظاهر تماهي مع قناعات الأمير الحفيد أو تبنيه لتلك القضايا بنفس حماس أبيه فبدت الجزيرة أداة للدفاع عن مصالح قطر والانتقام لها في عدة قضايا استهدفتها، أو ترضية لشركاء تجاريين، أكثر منها دفاعا عن الحق أو انتصارا للمظلوم، أو التزاما حرفيا بدور الديبلوماسية بالنيابة.. أو حتى التزاما بشعار الرأي والرأي الآخر.وهذا ما تجلى في المعالجة الإعلامية لمآلات ثورات الربيع العربي والوضع في مصر عقب انقلاب السيسي، وإسكات الداعية يوسف القرضاوي والسودان والحرب في اليمن، وقضية اغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، أو مواجهة الحصار الرباعي والتعامل مع الحراك الشعبي في الجزائر وغيرها.. قضايا تدرجت فيها القناة من التبني والانتصار للقضايا والانتفاضات والثورات والمواجهة الشرسة والفضح الشامل للممارسات والتجاوزات وحتى الجرائم، إلى التطبيع ومد جسور الصداقة ووقف الحملات الإعلامية، مرورا بالتهدئة والسكوت عن الحق..
المصلحة واغتيال الرأي الآخر
أكدت الجزيرة ومن ورائها قطر طبعا أن توجهها وطريقة معالجتها لم تكن نابعة من إملاءات مبدئية ومواقف ثابتة بدليل تبدل المعالجة والموقف دون أن يتبدل الموضوع ولا طبيعته ولا خصائصه وأسبابه.. فتدحرجت قضية الإخوان والانقلاب في مصر وقضية خاشقجي والربيع العربي والأحداث الساخنة في السودان والجزائر وغيرها.. إلى درجات متدنية من الاهتمام تلامس التجاهل وتتعمد التعتيم والتضليل في بعض الحالات. وانصرفت إلى تركيز ممل على الشأن الأمريكي والانتخابات الرئاسية، وملف إيران النووي والشأن الإسرائيلي وأثيوبيا وسد النهضة وغيرها من القضايا المزمنة التي لا تكلفها عناء حساب حساسية التناول الإعلامي.فمع احتفاظها بالدور الداعم للديبلوماسية بالوكالة أصبحت الجزيرة وسيلة لدعم المصلحة القطرية على حساب الموضوعية وأخلاقيات المهنة بطريقة ميكيافيلية مقيتة لا مكان فيها للمبادئ ولو ظاهريا، أو الحفاظ على الحد الأدنى من ماء الوجه باحترام شعار الرأي والرأي الآخر.
انخراط في جوقة إعلام العار
اهتمام الجزيرة بالشأن الجزائري يجسد تجليات التبدل في تناول القضايا العربية من النقيض إلى النقيض، إلى درجة أصبحت فيها الجزيرة شاهد زور بتعمد التعتيم والتضليل والانحياز لطروحات السلطة وتغييب الرأي الآخر الرأي المعارض تماما. تحسن علاقات الدوحة مع الجزائر انعكست انعكاسا مباشرا على تعامل الجزيرة مع الشأن الجزائري دشنته بتحلل مفاجئ عن متابعة الحراك الشعبي ومقاطعة تغطية مسيرات الاحتجاج السلمية.الجزيرة ختمت تراجعها وتغيير معسكرها بالانخراط مباشرة في مسار السلطة والانضمام إلى جوقة المروجين لسياستها وتجاهل ثورة شعب برمته ظل طيلة عامين يخرج في احتجاجات مليونية رافضة ومطالبة بالتغيير.. ترى الجزيرة استعدادات النظام لتنظيم الانتخابات وتعمى أن ترى مئات العربات والآليات الأمنية وعشرات الآلاف من عناصر الأمن تملأ شوارع العاصمة لمنع الجزائريين من حقهم في الرأي والاحتجاج.. تسمع باعتماد السلطات هيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات ولا تدري أن رئيسها عينه قائد الأركان وأنها شرعت في عملها بطريقة غير شرعية وغير قانونية..
انهيار بسرعة الصعود نفسها
تحتفي بحوار الرئيس وتعرض تصريحات المترشحين وآمال الشباب ولا تلتفت إلى مئات الشباب المساجين من معتقلي الرأي بتهمة المشاركة في المسيرات أو نشر تدوينات أو رسوم قدرت السلطات أنها تهدد الوحدة الوطنية.. الجزيرة لم تتحرج من التحول إلى شاهد زور في الجزائر..بقدر ما كبُرت قطر وانتشرت بكبر الجزيرة وزخمها الإعلامي بقدر ما صغُرت وانكمشت بصغر القناة وانقلابها على أعقابها. حسابات المصالح والأرباح المادية قد تكون في صالح الإمارة، لكنها كانت على حساب المكاسب المعنوية التي حققتها القناة، مصالح تفوح برائحة القنابل المسيلة للدموع ومكاسب تحمل آثار معاناة شعوب مكلومة وأوجاع مجتمعات مضطهدة، واستغاثات معتقلين أبرياء…
مرارة الحق لا تبرر الافتراء
صحيح أن ثمة من الإكراهات الدولية لا قبل لقطر بها، وليس عيبا أن تسعى وراء مصالحها الوطنية، لكن ليس بالانتقال من النقيض إلى االنقيض ودون التضحية بالمبادئ واغتيال المروءة.. بالتنكر للحق والانتصار للباطل..وعليه لا تثريب على الجزيرة قناة إعلامية إن لم تتمكن من قول الحقيقة ومواصلة خطها الافتتاحي بالجرأة نفسها والموضوعية ذاتها، وشق عليها نقل الرأي الآخر، لكن من المعيب أن تساهم في الافتراء والتضليل ونقل البهتان، وتصفق للباطل.. وها هي نتائج التشريعيات تفضح جزءا من المآخذ الكثيرة على منبر إعلامي لم يعد منبرا للرأي والرأي الآخر، فانهار بسرعة صعوده نفسها