بشير عمري
غالبا ما يتقوف حساب التقييم والتقويم الثوري لدى هواته من ذوي النزعة التحليلية الإحصائية الصلبة والرؤى النفعية الضيقة، عند ما تم إنجازه من العملية “الثورية” حراكية كانت أم احتجاجية أو انتفاضية، ومن ثم يصدر الحكم التاريخي بشأن نجاح الثورة من فشله، غير أنه قليلا ما يُهتم ببوادر الثورة ومداعيها الأولى قبل مؤدياها على اعتبار أن هكذا قراءة قبلية للحدث هي جزء جوهري في مركب عملية التقييم والتقويم للحظة التاريخية تلك، من هنا ارتأينا في هذا المقال الوجيز عدم الوقوع في مطب تقييم ما حققه الحراك في الجزائر إثر مرور اربع سنوات عن اندلاعه، والتركيز على العوامل التي حققت هي الحراك لكونها تمثل الأصول التي بفضلها لا يزال الحراك بكل أشكال عبره وتعبيراته مستمرا عبر كامل مستويات الفعل السياسي والاجتماعي.
لأن دراسة الاحداث التاريخية ذات الأثر المستمر في شقها المابعدي غاليا ما يضلل وفق التأويلات والتفسيرات كل محاولات فهم أصولها وأسس انبلاجها في سوق التدافع السياسي الوطني، خصوصا إذا ما كانت هاته الأحداث شعبية غير ذات اتصال مباشر بخطابات وخطط تيارات بعينها، دينية، إثنية، أيديولوجية أو سلطوية حتى.
والحقيقة أنه مهما اختُلف في رؤى وأختُل في مستويات فهم بروز وانبجاس روح وحركة “الحراك الشعبي” نهاية شتاء 2019 إلا أن شاكلة سريانه واستمراريته في الشارع التي لم تنل منها سوى جائحة كورونا على ضوء ما كان قد أبداه الشعب من إسرار على فرض رغبته في التغيير، تكشف عن وعي كانت قد تخمر بفعل الصراعات السياسية والتدافعات الاجتماعية الطويلة التي راكمتها التجربة الوطنية عبر عقود الاستقلال الستة التي خلت دون التغاضي عن تجربة الربيع العربي التي اجهضت عمليا بفعل تكالب أعداء حق الشعوب في ممارستها لسيادتها على مقدراتها.
إذن فالوعي الذي قاد الشعب إلى الحراك هو الجدير بالاهتمام والتركيز لفهم ماضي وحاضر ومستقبل الأمة على ضوء تطور نسق الادراك العام بالمعضلة الوطنية وأساسها الأزلي أي شرعية قيام السلطة واستمرارها القسري وتأثيرات ذلك المرحلية على تطور المجتمع المطلبية، لأن ما أظهره الشعب من سلوك “ثوري حراكي” غاية في الدقة من حيث الانتظام التلقائي خارج الأطر التوجيهية والانتقال السلس في درجات المطلبية، والهدوء والسلمية التامين والأكثر من هذا وذاك الاتحاد والتوحد حول مطلب واحد وهو التنحي الكامل للمنظومة القديمة (يتنحاو قاع) من دون إرادة تكسير الدولة ومؤسستها الصورية المعطلة، كل هذا عكس حالة غير عادية من الارتقاء في السلوك الوطني ما كان ليتوفر إلا بفعل مستوى متقدم نسبيا من الوعي السياسي للمجتمع، وهو سلوك يؤشر بالضرورة إلى طبيعة الوعي الشعبي بأصل الأزمة من كونها تبدأ وتنتهي من السلطة وليس كما درج بعض الثرثارين من الاكاديميين وكثير من أقلام “أدب السلطة” من إصرار على قلب المعادلة وجعل المجتمع أساس الأزمة بتنوعه وفرية تنطعه وجهويته.
هذا الوعي لم يتأتى اعتباطا بل هو نتاج عقود من المكابدة والمجاهدة والمعاناة مع تجربة الحكم في دولة الاستقلال، رسخت لدى الجيل المتأخر فكرة أن كل التمردات على مشروع هذا الحكم إنما أحبطت لأسباب يتوجب استيعابها وفهمها وبالتالي التعامل معها في معركة التغيير بما تستحق من حنكة وإرادة شعبيتين خصوصا في ظل ما أبدته النخب من هوان واستسلام للحكم ثم الانخراط في مشروعه الاستباقي الاستبقائي بشكل نهائي لغايات اختلفت من شخص إلى آخر ومن تيار إلى تيار غيره.
فتلافي الشعب للصدام العنيف مع السلطة كان توظيفا ذكيا للتجارب الماضية، كأحداث أكتوبر 1988، والحرب الأهلية التي حصدت أرواح قرابة ربع مليون جزائري، في ما يعرف بالعشرية السوداء، وقبلها أحداث جهوية ومطلبية اجتماعية وصراعات طلابية جامعية، أغنت كلها “الذاكرة السياسية الشعبية” بصور حول طبيعة منظومة الحكم وما يقتضي الالتزام به في سبيل مقارعتها بما تكره من سلوك لا بما تحب مثل التطرف المطلبي ديني أو عرقي، المغالبة ومغالاة في الصراع السياسي، وكل المسلكيات المغذية للفرقة والمؤدية للمواجهات بما يتيح لها فرصة القمع كخيار تبريري لاستعادة السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية.
كما أن الحراك الجزائري أبان عن مقدرة كبيرة في التعامل مع المعطى الإقليمي أين تم الاجهاز على الربيع العربي والفضل في هذا كما اشرنا يعود إلى رأسمال التجربة الوطنية مع مثل هكذا أحوال، فجل القطريات العربية عدا لبنان لم تعرف مع عرفه المجتمع الجزائري من سخونة المشهد ودموية الصدام السياسي في سبيل تحقيق الدولة المنشودة بعد عقود عدة من الدولة الموءودة.
إذن يتضح من خلال هذا الملمح الوجيز بأنه من الخطأ الجسيم التركيز في السؤال على ما تحقق حتى الآن من الحراك، أو إذا ما كان قد تحقق شيء ما فعلا من عدمه، لأنه بالإضافة لكونه سؤال غير منطقي بالنظر لحركية التاريخ، وفلسفة السياسة في شقها التغييري فيه، فإنه يظل سؤال مفخخ على اعتبار أنه يتيح لكل القراءات المعادية فرصة النيل التأويلي من الحراك، وبالتالي يجرده من قيمته التاريخية المستمرة ويحليه إلى مستوى الحدث الزمني الميت والمحنط في طويا الوقت.
بينما التركيز على دوافع قيام الحركة تبقي القراءة مفتوحة والوعي متواصل برسالية الحراك باعتباره ليس دواء لحظيا (اسقاط العصابة) وإنما بوصفه بوصلة أزلية باتجاه بلوغ مرافئ التحرر والتطور السياسيين اللذين وحدهما من سيضمن ازدهار الوطن ورقي المواطن.
كاتب جزائري