رشيد زياني شريف
بعد مضي 27 أسبوعا ( أكثر من 6 أشهر) على هبة الشعب يوم 22 فبراير 2019، أو ما أصبح يُعرف بالحراك، تبدو الساحة منقسمة إلى قسمين رئيسيين في تقييم الوضع، من جهة طرف متفائل من الإجراءات المتخذة حتى الآن من قبل السلطة الراهنة، الحكم الفعلي المتمثل في قيادة الأركان بعد الإطاحة ببوتفليقة، واعتبار هذا الطرف، أن القيادة الراهنة تتصف بالوطنية والإخلاص على خلاف سابقتها، وهي كفيلة بتخليص الجزائر من حكم الدولة العميقة المجسدة في شبكة توفيق (مدير الاستخبارات السابق والمهيمن على الحكم المطلق على البلاد طيلة ربع قرن من الزمن) ، وأنها قادرة على انتشال الجزائر من حكم العصابة إلى بر الآمان. ويضع هذا الطرف ثقته في خطة الطريق التي تسير عليها قيادة الأركان بكل إصرار، نحو تنظيم الانتخابات الرئاسية في أقرب الآجال. من جهة أخرى، هناك طرف غير متوجس من مسار القيادة العسكرية الراهنة برمته، ويرى فيه مناورات ليس إلا، للتمديد من عمر منظومة حكم العصابة بأشكال وواجهات تبدو جديدة لكنها تلتقي مع سابقتها في الجوهر، ويعتبر هذا الطرف أن القيادة العسكرية الراهنة غير مؤهلة لإقامة دولة القانون ولا تملك الشرعية للحكم مهما كانت المبررات والذرائع والمصوغات المقدمة، ويعتبر هذا الطرف أن كل الإجراءات المتخذة والتي تبدو تستجيب لمطالب الحراك، مجرد مسكنات لصد الأنظار وللالتفاف على جوهر ما تطالب به أغلبية الشعب، أي دولة العدل والقانون، دولة مدنية لا تصدر أوامرها وقراراتها من الثكنات.
حتى وإن بدا للبعض هذا الموقف متشنجا ومتطرفا، يرى أصحابه أنه موضوعي وواقعي، لأنه يستفيد من تجارب ويستخلص الدروس من مأساة مريرة تجرعها الشعب منذ استقلال البلاد، ولا يريدها أن تتكرر، خاصة بعد أن استعاد المواطن الشارع وأصبح يستطيع إسماع صوته ومطالبه المكبوتة، بعد أن منع من ذلك لعقود من الزمن بموجب قوانين مجحفة. وقد رأى على مر سنين، تعاقب الحكومات والرؤساء بمختلف المشارب الظاهرية، لكن دون تغيير في جوهر منظومة الحكم، ويرفض اليوم أن يتم تجاهله أو التحايل عليه، وكل الممارسات القهرية والاستعلائية التي تواصلها السلطة الحاكمة الفعلية، التي لا تزال، على غرار سابقتها، تعتبر المواطنين مجرد رعايا مسلوبي الحقوق والسيادة. هذه العقلية العسكرية « الإقطاعية » المتواصلة، ترى نفس المخول الوحيد للحكم في رقاب الناس، حكم يشبه التفويض الإلهي الذي حكم به ملوك عصور الإقطاع في أوروبا القرون الوسطى بواجهات سياسية مرتزقة. هذه العقلية رسخت نوعا من الطبقية، بين الحاكم والمحكوم ووضعت المواطن في مرتبة تشبه موضع الذمي الذي يفرض عليه دفع الجزية، بتخليه عن حقوقه مقابل حماية تضمنها هذه القيادة العسكرية ( في وجه أعداء وأشباح تصنعها لهم القيادة العسكرية، كل مرة بوجه مختلف بحسب الظروف)، وهناك قول منسوب لقائد الأركان السابق محمد العماري يقول فيه » كيف للشعب أن يتجرأ ويرفع رأسه أمام العسكري؟ لا بد أن نعيده إلى وضعه السابق ليركع أمامنا ». استمر الوضع على حاله إلى غاية انطلاقة هبة الشعب لتعبر عن رفضها استمرار هذا الوضع وعدم رضاها بأقل من تسليم السلطة إلى حكم مدني منتخب من قبل الشعب خارج سيطرة المنظومة التي حكمت البلاد منذ 62، بمدنييها وعسكرييها، كل الذين ثبت فسادهم المستشري وفشلهم الواسع في كل المجالات، مثلما جاء ملخصا في شعار « يتنحاوْ قاع »، أي ليرحل كل من ساهم في هذا الوضع البائس. هذا الطرف الذي يتشكل من فئات واسعة ومتنوعة من المواطنين الذين لا يزالون يرابطون كل جمعة و كل ثلاثاء، منذ نصف سنة، يرفض السلطة الفعلية الراهنة كأمر واقع، ولا يرى فيها سوى امتدادا فعليا للنظام الفاسد الذي كانت هي نفسها جزء لا يتجزأ منه ومسؤولة بشكل كبير عن الوضع الخطير الذي يعاني منه الشعب الجزائري.
كان يحذو الأمل فئات واسعة من الشعب في أن تتعظ السلطة الراهنة وتقرأ المشهد بموضوعية ومسؤولية لتصحيح المسار والاصغاء بصدق ونزاهة لصوت الشعب ولمطالبه المعبر عنها منذ نصف سنة، بطرق سلمية وحضارية، لكن للأسف، لم يسجل على أرض الواقع سوى مواصلة لنفس التصرفات والمناورات، لا تحيد عن سابقتها قيد أنملة، مما يؤكد أنها صيغت في نفس المخابر المظلمة. وحتى لا يبدو هذا التقييم متحاملا ومتشائما بشكل مبالغ، ومشككا في النوايا، مثلما اتهم كل من حذر قبل عشرات السنين من أن الجزائر تسيّر من قبل عصابة إجرامية منظمة ممثلة في جهاز الاستخبارات بقيادة الجنرال توفيق، الذي أحكم سيطرته على البلاد وأبقى الجزائر رهينة شبكاته الأخطبوطية، من خلال جزرة الامتيازات وعصا التهديدات، ها نحن اليوم نسمع السلطة نفسها تصف هؤلاء بالعصابة وتزج بهم في السجون. فإذن لكي لا نتهم من جديد بالمزايدة وتشويه سمعة السلطة دون دليل، من المهم أن نلقي نظرة عابرة على ما يحدث على أرض الواقع، دون مبالغة أو حيف، ليتبين كما يقال أن المنتوج دليل على طبيعة صانعه، أي أن كل ما تقوم به السلطة الراهنة نسخة طبق الأصل لتصرفات سابقيها:
إصرارها على فرض انتخابات رئاسية في ظل نفس المنظومة والقوانين والوجوه التي يحمّلها الشعب المسؤولية عما حدث، دون أخذ في الاعتبار رفض الشعب لهذه الانتخابات بشكلها المزمع تنظيمه، ليس رفضا للانتخابات كما يدعي البعض زورا وتحريفا، لكن لأنها مفروضة بطريقة لن تحل المشكلة ولن تسفر سوى في استنساخ النظام الذي يطالب الشعب بتغييره جذريا، الأمر الذي جعل الحراك يرفع شعار « لا انتخابات مع العصابات »؛
موجة تخوين كل من يعارضها ويعارض السلطة الراهنة ومخططاتها من خلال توظيف فيالق من الذباب الالكتروني لتشويه سمعته واتهامه بأشنع التهم بل وأحيانا اعتقال العديد منهم؛
فرض حوار يقوده شخص مرفوض على أوسع نطاق، بجدول أعمال يقتصر على بند واحد أوحد (الانتخابات الرئاسية)، بحضور نفس الوجوه البالية التي ما انفكت تحوم حول قصعة السلطة في كل المناسبات، قبل 22 فبراير إلى اليوم، وغياب كل الوطنيين الراغبين في حلول حقيقية ناجعة نابعة من إرادة الشعب. ومثلما كان رئيس الحكومة السابق يخوّف المواطنين من الخروج في الشارع للتعبير السلمي عن إرادتهم، ويحذرهم من أن الخروج بالورود سيتحول إلى مشهد سوري آخر، يهدد رجل السلطة المحاور اليوم، كريم يونس، بأنه في حالة عدم نجاح الحوار، الجزائر مهددة بالدمار؛
التشنيع وتجريم كل أصحاب المبادرات الأخرى (أكثر من 50 مبادرة)، التي تطالب بفتح المجال لحوار فعلي شامل غير إقصائي يعد لخريطة طريق كفيلة بإنهاء الوضع الراهن، ويطرح حلا يرضي الجميع بدلا من الإصرار على فرض هذه الانتخابات التي يراد التسويق لها كترياق لكل مشاكلنا وعربون على تحقيق أرادة الشعب، في وقت يتساءل المواطنون كيف لمن يغلق أبواب العاصمة لمنع المواطنين من المشاركة، في بلدهم، في المسيرات السلمية ويغلق كافة وسائل الإعلام العمومية المملوكة للشعب، في وجه من يعارض خطة السلطة، كيف لمن يكتم أصوات المواطنين ويحول دون وصولها بشفافية ونزاهة، أن يقدم ضمانات لشفافية ونزاهة هذه الانتخابات؟ فغلق المجال الإعلامي في وجه المخالفين، أكبر دليل على كتم الحريات وغياب الإرادة في التغيير، تماما مثلما يذكرنا باستهجان بوتفليقة بالذين طالبوا بحقهم في التعبير عبر التلفزيون، قائلا، كيف نمنح تلفزيوننا إلى من يعارضنا؟ أليس ذلك استمرار على نفس النمط وأن دار لقمان لا زالت على حالها؟
لا زال إلى يومنا هذا العشرات من المعتقلين السياسيين الذين رفضوا خطة السلطة، دون أن تعترف هذه السلطة بصفتهم معتقلين رأي أو معتقلين سياسيين، وتتهمهم تارة بجرائم تهديد الاستقرار والأمن، تارة أخرى بالإخلال بالنظام، أي تماما مثلما تفعل كل الأنظمة الشمولية، كالصين وكوريا الشمالية والسعودية ومصر وغيرها، وكما فعلت السلطات الجزائرية المتعاقبة قبل 22 فبراير، فهل نعتبر حقا أن الحريات مكفولة والتعبير متاح لكل مواطن؟
الحوار الوحيد المقبول هو حوار مع من تنتقيهم هذه السلطة من تنظيمات، بجدول أعمال معد من ألفه إلى يائه، لكي لا تتفاجأ بأي مستجد، ومثلما كانت السلطة منذ 62 لإلى 88 تتخذ من التنظيمات الجماهرية التي أنشأتها، مطية للحكم بالنيابة عنها زعما بأنها تشكل فئات المجتمع (الاتحاد العام للشباب، للنساء، للفلاحين، للعمال…)، فعلت السلطة بعد التعددية نفس الشيء من خلال تفريخ العشرات من الأحزاب بكل الأطياف، لتتخذها رداء للتعددية والديمقراطية الشكلية، والتغطية على الحكم الفعلي الذي يدير البلاد خلف الأسوار.
سياسة التضليل وتزييف الحقائق عبر جحافل من الذباب الالكتروني والخبراء الموسميين الذين ينزلون ضيوفا حصريين على مختلف شاشات التلفزيون دون وجود أي صوت معارض لهم (قوائم سوداء معتمدة من قبل السلطة الراهنة)، للزعم بأن الذين يرفضون الانتخابات يخافون من صوت الشعب، وأنهم يريدون فرض نمط حكم دخيل على البلاد، وأنهم يتحركون بإيعاز من جهات خارجية مشبوهة وتكن العداء للجزائر وتاريخه وماضيه، وما إلى ذلك من التوصيفات التي استخدمتها كل الأنظمة من قبل، يصوّرون من يطالب بالدولة المدنية ودولة القانون، تارة بأنهم علمانيون يحاربون قيم البلد وتارة أخرى بأنهم يعملون لجهات أجنبية، وهم بذالك يدلسون على حقيقة مطلب « دولة مدنية ماشي عسكرية »، التي تطالب في واقع الأمر بشيء مشروع وبسيط ومن صميم سيادة الشعوب الحرة، أي إنهاء الوصاية العسكرية والحكم الشمولي الذي يسخر ثروات البلاد لأغراض غامضة بعيدا عن أنظار الشعب ومراقبة البرلمان المنتخب فعلا، مطلب يعيد البلاد ومصيره بين أيدي رئيس منتخب بشفافية وحكومة مدنية منتخبة، ولا يتركها رهينة بين أيدي مجموعة من الجنرالات يسخرونها لأنفسهم دون محاسبة ولا شرعية ولا مراقبة.
كل ما سلف الإشارة إليه أمر بديهي، لأن ما يحدث ينطبق تماما مع طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تؤمن بصوت وإرادة وخيار الشعوب، بل ترى في نفسها الحاكم الطبيعي الذي لا يرد قراره، نوع من التأييد السماوي الذي لا يحق لغيرها منازعتها فيه، مثلما سادة عصر الإقطاع بمباركة الكنيسة المتواطئة، أما اليوم فالتأييد يستمدونه من الشرعية الثورية النوفمبرية والخلفية الحضارية البادسية، لكتم أنفاس المواطن وتكبيل إرادته تحت التهديد والوعيد.
من الطبيعي أن تفتر الهمم ويتعب الشعب في مسيراته المستمرة طيلة نصف سنة، لكن، يلاحظ أن تعنت السلطة وسوء صنيعها وتغطرسها واستفزازاتها للشعب قد أثبت للمواطنين أن لا بديل أمامهم سوى الاستمرار في رباطهم، وعدم الوقوع ضحية صرخة « سبع سنين بركات » ثانية، لأن الذين فضلوا التنازل عن حقوقهم لحقن الدماء والاقتتال الداخلي في أعقاب الإعلان عن الاستقلال ذات صافة 62، تجرعوا بعد ذلك الأمرين، وذاقوا ويلاته طيلة نصف قرن من الزمن على أيدي جيش الحدود الذي استولى على مقاليد الحكم المطلق، واليوم، قد استخلص الشعب الدرس، ولم يعد ينخدع لدموع التماسيح التي تطالبه بالعودة إلى البيت، أو الوثوق بمن يعده بتلبية مطالبه، وقد أثبت الشعب أنه متمسك بمطلبه الجوهري وأنه لن يكل ولن يمل حتى يصغى إلى صوته وتنفذ إرادته، وقد نجح حتى الآن بفضل الرباط المستمر في إسقاط الكثير من الأفاقين وإبطال العديد من المناورات والحيل، وكشف حقيقة الذين حاولوا تسلق الحوار لحرفه عن مساره، وتأكد للجميع أن التواجد في الشوارع شكل أحد أضمن وأصدق وسيلة لإجهاض كل محاولات الالتفاف على مسار الشعب المطالب بالتغيير الفعلي السلمي، وأنه الحصن المنيع لحماية حراك الشعب المبارك.
لقد أثبت الشعب أنه من الوعي والعزيمة بما يجعله محصنا في وجه مختلف الشعارات البراقة، وأنه لا يؤمن إلا بالمبادئ والأفعال على الأرض، وأنه مثلما يرفض جرائم ومخططات اليناريين الذين سفكوا دماء الآلاف من المواطنين، فلا ينخدع بصرخات الذين يرفعون زورا وبهتانا شعار النوفمبرية البادسية لبيع سلع مغشوشة.