عبد الحفيظ بن جلولي10
سبتمبر، 2020 09
https://22arabi.com/
تسترخي الذاكرة لحظة هجرة نحو المراسي البعيدة لتموضعات الحدث الماضي مستجلبة انكساراته كما انتصاراته ربّما في مرحلة من المراحل لقراءةٍ أكاديمية للحدث التاريخي أو توضيحًا من التوضيحات التي يتطلبها الدرس التاريخي في مدرجات التلقي الأحادي، أو حتى تلك التجاذبات التي تجري على شاشات الفضائيات أو تلك التي تجري على طاولات المقاهي؛ للاستفادة منها في فهم الوضع الجزائري الراهن وأبعاده.
لكن ما يغيب حقيقةً عن وعي القارئ للحدث التاريخي هو البحث عن تلك العلاقات التي تربط الذّاكرة بالوضع الرّاهن لا كحدث يجب استعادته لتركيبه على شريط الحاضر ولكن كبنية استأثر بها الوعي وتشكلت بها مضامينه وطبقاته، وهو على أي حال يستعيدها ليسترشد بمعالمها في فك شفرات الأحجية السياسية والاجتماعية والثقافية الرّاهنة.
يرى الكاتب السياسي بشير عمري، في مقال له بعنوان “كيف نخسر حاضرنا بماضينا في معركة التاريخ السياسي” أنّ “فضاءات الكلام السياسي تنأى غفلة أو استغفالًا عن لحظة انفلاق “الوطنية” بداية القرن الفائت، وفي حقيقة الأمر أن “عمري” في كل كتاباته يستدعي هذا الجانب المهم في تاريخية الوضع السياسي.
قد يقول قائل ما العلاقة بين الماضي السّياسي ومفاعيله وفواعله والوضع الرّاهن بكل تشعّباته وتداخلاته؟
لا يمكن أن يتبادر إلى أذهاننا أنّ العودة إلى التّاريخ السّياسي تعني الاهتمام بالحدث، وإن كان مهمًّا، لكن استثماره في فكّ معضلات الوضع الجزائري الراهن لا تعتمد على قراءة الوضع الحالي وفق معطيات الماضي، ولكن تعني بالتحديد قراءة التّجربة السّياسية الوطنية تاريخيًا على ضوء الرّاهن السّياسي والاجتماعي، ومنه نستطيع أن نفكك العديد من العلاقات بين البنيات الكامنة في كلا الكيانين.
تمتلك الحادثة التّاريخية وفق هذه الرّؤية حركيتها، إذ أنّها تقع بالنّسبة لميزان الوضع الجزائري الراهن موقع التّمييز، فما يصلح يستمر وما تجاوزه الزّمن يدرج في متحف التّاريخ، وعليه ينتقل التّاريخ من السّكونية التي لا تتعلق سوى بالحدث في حدّ ذاته إلى الحركية التي تتعلق بالتّاريخ في اندراجاته الرّاهنة.
إنّ نموذج الثورة في الذّاكرة الوطنية يعكس مثال الهرم المجتمعي في مستوياته الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية النّاجزة انطلاقًا من الوعي الشّعبي بالوضع الراهن المتأزم، والمتمثل -آنذاك- في الارتهان للإرادة الاستعمارية الغاشمة والغاصبة للوطن وللوعي.
إنّ الأزمة الوطنية المستمرّة منذ الاستقلال 1962، إذ لا يخفى على القارئ السّياسي عمق الأزمة النّاجمة عن الخلاف بين قيادة الأركان بزعامة الرّاحل هواري بومدين، والحكومة المؤقّتة برأسيها، الرّاحلين عباس فرحات وبن يوسف بن خدّة، ما فتئت هذه الأزمة تستشكل وتفرز مراحلة عصيّة تتعلق بالهوية وبالتاريخ والمجتمع وبميكانيزمات الممارسة السّياسية وباللغة، وجميع ذلك يعكس مدى تداخل الكيان الاجتماعي في جانبه الإنساني أو الشّعبي مع الواقع باعتباره من إفرازات انتصار الجزائر التّاريخية على فرنسا الاستعمارية، وبالتالي تصبح كل تمظهرات الواقع بالنّسبة للشّعب لا محالة متجلية في إطار الانتصار.
إنّ العكس هو الذي حصل باعتبار أنّ الجماعة التي تخطّت الحدود وحملت معها توهج لحظة الاستعادة الوطنية للهوية كسرت المعبر التاريخي نحو التعدّدية باعتبارها رهانًا ومكسبًا ثوريًا كرّس جميع عناصره لتأسيس الدّولة الوطنية الما بعد استقلالية على أسس الديموقراطية والمبادئ الإسلامية التي لا تعني في النّهاية سوى هويّة هذا الشّعب التائق إلى الحرية والكرامة والعدل.
إنّ جوهر أي نظام سياسي هو تحقيق اللحمة الوطنية وفق مبادئ اللقاء الوطني القائم على الحوار والاختلاف والبحث عن الحد الأدنى المشترك الذي تنبني على أساسه الدّولة الوطنية الدّاعمة للحق الطبيعي في الحياة الكريمة للشّعب، والحق في اختيار من ينوب عنه تمثيلًا في المجالس الوطنية والمحلية وتأسيس الدولة على قاعدة المؤسّسات التي لا تزول بزوال السلطات المتداولة على كرسي الحكم.
إذًا، الدّولة في حقيقتها هي الانبثاقات الأولى للوعي بالذّات الوطنية، في بحثها عن حرّيتها ابتداءً، ومن ثمّة تشكيل صورتها التي تريدها على منابر الهرم المعماري السياسي الوطني، هذا الهرم الذي يُعبر عن الوضع الجزائري الراهن يرتكز على التاريخ والفاعلين فيه، ومن فجّروا نواته التي سوف يكتبها المؤرّخون بعديًا كحلقة من حلقات الهوية الوطنية.
فالذّاكرة الرّاهنة لا يمكن أن تشتغل أو تتحرّك عناصرها دون تفعيل مخزّناتها من الأدوات والأحداث والأشخاص الذين رسموا بناء الوطن السّياسي والاجتماعي والثّقافي، وفق رؤية تمثّلت الخطر الذي كان يتهدّد الوجود الوطني، ثم حدّدت مستويات المواجهة، وبعدها وضعت الكيانات الحاضنة للرّؤى (الأحزاب)، ثم أخيرًا فتحت المجال للكينونة البشرية الوطنية كي تعبّر عن نفسها من خلال الثورة ثمّ التفاوض.
لعلّ العنصر الأساسي الذي على السّياسات الرّاهنة تمثله هو الشّعب، لأنّ الثورة لم تقم إلا على أكتافه، وجدوى الوعي بعنصر الشّعب هو البحث الدّائم عن مشاريع “اللقاء الوطني”، لا من حيث التجمّع، ولكن من حيث أهمّية الوعي بتأكيد مفهوم وواقع “الجماعة الوطنية”، ولعلّ استقراء التّاريخ الوطني في شقّه الثّوري يكشف لنا عن أهمّية اللقاءات التي حدثت في مؤتمر الصّومام، ولقاء مجموعة الــ 21 أو 22 مؤتمر طرابلس.
بعيدًا عن الموقف التّحليلي للقاءات المُشار إليها، فهي تمثل الدّفق الحيوي لماء الثورة في شرايين الحركة السّياسية، وتأتي أهمّية اللقاءات الوطنية في تأشيرها على وضع الأمر في نصابه الحقيقي تمامًا كما حصل مع ندوة الوفاق الوطني عام 1994، إذ لم يكتب لها النّجاح لأنّ منظميها والدّاعين لها أرادوها أن تكون مخرجًا سياسيًا لوضع غير دستوري، إثر انقلاب 1992 على الشّرعية، وبعدها دخول البلد في نفق الانسداد السّياسي والإرهاب.
إنّ الوعد السّياسي بالوضع المستتب لا يكون وفق أحلام السّياسة القادمة من وراء المكاتب، وإنّما يكون المصدر الوحيد لها هو الإرادة الشّعبية الكامنة في الرّؤى البسيطة التي تنبع من المعايشة اليومية للواقع الأليم، هذا الأخير الذي هو المحك القوي لامتحانات الإنتاجية السّياسية الموافقة أو المخالفة للرّغبة الشّعبية في الانعتاق من الفقر والظلم والتّضييق على الحرّيات وعدم المساس بأمن المواطن، حيث ينبثق التّاريخ في بؤرة الوضع الجزائري الراهن ويكشف عن تلك الحركة السياسية بتدرّجاتها الطيفية المختلفة والتي قامت على المعارضة والموالاة، على الاختلاف والاتفاق، طبقًا للحالة السّياسية والوضع الجاري في دهاليز المقاومة للمستعمِر، وما سوف يكون بعديًا من الرّؤية للثورة ومساراتها.
إنّ توجّهات القائمين على السّلطة باعتبارهم مسؤولي أجهزة الدولة والقائمين على التسيير السّياسي لشؤون الحكم، يجب أن يعملوا على إنجاز واقع سياسي يتوافق مع معطيات حيوية شعبية، ساهمت في اقتلاع طبقة سياسية فاسدة استأثرت بالحكم وأدارته بما يحقّق مصالحها الشّخصية، فبدّدت أموال البلاد، وعبثت بثرواتها، ورهنت الوطن في بعض المستويات اقتصاديًا لجهات خارجية، أي أنّ الوضع الجزائري الراهن لا يستقيم إلا بإصلاحات سياسية واقتصادية تستثمر في ما فرّط فيه النّظام السّياسي السّابق، والعمل على العودة المرحلية لبناء التوافقات والتّوازنات الاستراتيجية بين المعنى المؤسّساتي في الدّولة بالمفهوم السّياسي والمعنى الرّاعي في الدولة بالمفهوم الاجتماعي.
ولطالما غاب المفهوم الاجتماعي للدّولة، باعتبارها منبثقة من الأسس الاجتماعية للتجليات السّياسية، فالاتّفاق الاجتماعي والتوافق الجماعي هو الذي أنجز البنيات السّياسية النّاظمة لتسيير مؤسّسات الدولة، وبالتالي تكون المنظومة القانونية اعتبارًا من الدستور وإلى القوانين العادية معبّرة عن الحقيقة الاجتماعية الكامنة في حركة الشّعب نحو المطالبة بالتغيير، إذ إنّه “تبرز الدّيموقراطية الاجتماعية بوصفها تعبيرًا عمليًا وتمظهرًا وظيفيًا للدّولة الاجتماعية، بمضمون إنساني عام يتجاوز مستويات الانتماءات الخاصة”، كما يقول الكاتب السياسي بشير عمري.
ولعل بشير عمري، يضيف إلى الأساس الإنساني للدولة الاجتماعية، عنصرًا آخر يتمثل في تجاوز الانتماءات الخاصّة على أساس ما سوف يحقّقه المبدأ الاجتماعي من توزيع عادل للثروة والتّوازن الجهوي (الإداري) واستقلال الدولة عن منطق القبيلة السياسية وتعالقها مع فكرة المجتمع وفق تأسيساته الحداثية المرتكزة على الحزب.
تبقى فكرة الاستعانة بالتّاريخ في فك شفرات الأزمة الرّاهنة معتركًا يحتاج إلى العديد من الرّؤى لتنبني مرتكزاته على التوجه الاجتماعي للدّولة باعتبار الشّعب هو مصدر السلطات، والشّعب كينونة اجتماعية ناهضة تبحث عن مستويات التحقق العضوي السّياسي والثّقافي لها في الأوجه المكمّلة لوجوديتها في العالم.