صدرت حتى الآن عدة كتب جماعية عن حراك الجزائر، وبضعة أفلام يختلف الناس في استحسانها، وستكون هناك أخرى. لكن الشيء المُحرِّر حدث في العقول، وكأنه صار من الممكن فجأة أن نصير فاعلين في حيواتنا، وفي مصائرنا بعد عقود أمضيناها صامتين.2021-01-07
http://assafirarabi.com/ar
عمر زليق
مخرج أفلام وبرامج راديو، من الجزائر
جانب من الحراك الشعبي في العاصمة الجزائرية
تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
إذا كانت الحركة الشعبية قد عبأت الكثير من الحشود في المدن الكبرى بالجزائر، بدءاً من 22 شباط/ فبراير 2019، وتوقفت بسبب وباء كورونا، فإن الوقت قد حان لاستعراض ومناقشة ما حدث لنا وبداخلنا خلال تلك الأيام الفريدة، لنرى ما تبقّى حين نعتقد أننا نسينا كل شيء، ولنتبيّن الآثار التي تركتها في مخيلاتنا، في الطرق التي نعيش فيها ونأمل بها، لنقنع أنفسنا بأن كل ذلك لم يكن هباءً.
حتى الآن، صدرت عدة كتب جماعية، وبضعة أفلام يختلف الناس في استحسانها، وستكون هناك أخرى. لكن الشيء المُحرِّر حدث في العقول، وكأنه صار من الممكن فجأة أن نصير فاعلين في حيواتنا، وفي مصائرنا بعد عقود أمضيناها صامتين.
ربما يشوب القليل من الحزن ذكرياتنا نظراً لكون الفترة الحالية فترةُ تصفية حسابات، واعتقالات لعشرات النشطاء، وجدالات أيديولوجية، وانقسامات تافهة. لكن علينا أن نسمح لأنفسنا بالعودة خطوة إلى الوراء حتى لا نفقد الأمل في مستقبل مشرق.
تمهيدات للحب الوطني
كنا نملك الأسباب الملائمة لنثور، وتتجسد مهانتنا في صورة هذا الرئيس العجوز الخرف، في كرسيه المتحرك، والذي يتشبث بالسلطة مثل قملة، مستعملاً أشخاصاً يحكموننا باحتقار، ويتشاركون السلطة فيما بينهم في دوائر مصالح خاصة وضعت هذا البلد تحت سيطرتهم، وضخّت ثرواته بصفاقة، ومنعت حرية التعبير والنقد، وكلَّ طموح لمن لا يحمل بطاقة هذا النادي الخاص جداً، والذي لم نعد نعرف إن كان يمثّل الدولة أم الإدارة أم النظام أم الأجهزة الأمنية، أم شيئاً انبثق من كل هذا على شكل مافيا فريدة من نوعها.
تفاقم هذا الشعور بعد اكتشاف القضية المدعوة « قضية السبعمئة كيلو كوكايين » التي تم اكتشافها في ميناء وهران، والتي اشترك فيها أشخاصٌ يدورون في حلقات قريبة من السلطة.
هذا « اليوم المبارك » لم يأتِ من العدم، كعاصفة هبت في سماء صافية، بل كانت هناك علاماتٌ ظاهرة لمن كان يريد أن يراها، مروَّجاً لها من طرف وسائل إعلام جديدة. كانت قنوات مثل « بِربِر تيفي » أو « المغاربية » قد سبق وعرضت كل ما كان يدَّعي المعارضةَ التي صارت تدعو بشكل براغماتي، بأنه من الأحسن أن تُسْمِع صوتها على إعلام الأقمار الاصطناعية هذا، بدل أن تبقى ممنوعةً من الإعلام الوطني ذي السمعة المشوهة لدرجة سبّه: « قناة العار » كمثال مضاد لقناة « المغاربية » الإسلامية ومقرها في لندن، والتي صارت مقدسة لدى فئة مستاءة من الشعب: « المغاربية قناة الشعب ».
لم يكن الأمر مختلفاً على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث دخلت السياسة برؤوس نعرفها، وأحد المؤثرين الصاعدين كان أمير دي زاد (1) (Amir DZ) ، الذي نجح في فرض نفسه من خارج البلاد، وفي خلق مصداقية له لدى فئة كبيرة من الشعب، عبر لومه لدوائر السلطة وأبناءها على انحلال أخلاقهم، وكشفه لفضائحهم في الفساد، ومجسّاتهم الممتدة لتصل إلى كل شيء.
كنا نملك اسباباً للثورة، وتتجسد مهانتنا في صورة الرئيس الخرف، الذي يتشبث بالسلطة مستعملاً أشخاصاً يحكموننا باحتقار، ويتشاركون في دوائر مصالح خاصة ضخّت ثروات البلد، ومنعت حرية التعبير والنقد، وكلَّ طموح لمن لا يحمل بطاقة هذا النادي الخاص، الذي لم نعد نعرف إن كان يمثّل الدولة أم الإدارة أم النظام أم الأجهزة الأمنية، أم شيئاً انبثق على شكل مافيا.
تم اعتقال بعض متتبعيه قبل 22 شباط/ فبراير، ومن بينهم من يُعتبر من نجوم التلفاز الذين رأيناهم على الشاشات المحلية، مذهولين، ومكبّلين.
حينها، عرفنا فعالية فرقة مكافحة الجرائم الإلكترونية التي أُسست قبل سنوات، والتي بدأت في تحديد الأشخاص السذّج الذين يحبون البروز، والذين اعتقدوا بأنهم وجدوا مكاناً في مواقع التواصل الاجتماعي، ليعبروا بحرية عن كل ما يريدون قوله. لكن بقيةَ القصة ستثبت لنا للأسف أن الفرقة قامت بعمل جبّار وجادّ.
ومن المغرب الشقيق، حيث تابعنا المظاهرات، استمدينا كلمة « حراك »، التي ستكون محل جدل، إذ أنها لا تمتثل لتقاليد صفائيي (من يحرص على صفاء اللغة) لغة المتنبي، لكن كان لها وقعٌ حسن وكانت تحمل فكرة الحركة، والتحريف الهوياتي للقواعد اللسانية المعمول بها حتى ذلك الحين.
من « حراك الريف » إلى الحراك الشعبي، جرى تبني المصطلح، وهو ما قد يشمل ربما بدايةً مغرب الشعوب.
مع إعلان العهدة الخامسة لهذا الرئيس المثير للشفقة، صار ما لا يطاق عامّاً أكثر، وحتى حس الفكاهة الجزائري أصبح عاجزاً عن إخفاء المهانة العميقة التي تولدت عن كوميديا السلطة التي ادعت من جديد أنها تجعلنا نلعب دور الممثلين الإضافيين الوديعين، بينما هي تستغل هذا الجسد الغائب.مقالات ذات صلة
بعض المفاتيح لفهم المظاهرات في الجزائر
في البداية، كانت هناك في يوم 16 شباط/فبراير 2019، مظاهرةٌ كبيرة بـ »خراطة »، وهي منطقة تاريخية ترمز لمظاهرات 8 أيار/ مايو 1945( مظاهرات احتفلت بالانتصار على النازية وطالبت باستقلال الجزائر). في هذه المدينة كانت جرت وقتذاك مجزرةٌ ارتكبها المستعمرون والشرطة وراح ضحيتها عشرات آلاف الجزائريين، الذين اعتقدوا أنهم نجحوا في الاستيلاء على الحق بالحرية.. في صورة أخرى، « بخنشلة »، في 19 شباط/فبراير، حين أجبر المتظاهرون البلدية على نزع صورة الرئيس من على واجهتها، وهو ما يوحي بالرفض القاطع لعبادة الشخصية.. الأمر الذي اعتدنا عليه خلال عشرين سنةً من الحكم.
ثم، وعلى وجه الخصوص، نشرت العديد من فيديوهات مشجعي كرة القدم على يوتيوب، وهم يغنون بأعلى أصواتهم في الملاعب، أغانيَ نواديهم، ويهتفون بشعارات سياسية من دون تنازلات، باللغة الشعبية الجميلة التي يستطيع استعمالها « الألتراس » ليشغلوا قناة التعبير عن الرأي المحررة التي يستحيل منعها، فهم يَسْحَقون – بأعدادهم قبل كل شي – الحشدَ المتماسك والمنظم حول هذه الهواية.
وسواءً كنا نهتم بكرة القدم أم لا، فإن لحظات الحقيقة هذه كانت مذهلةً بسبب الجرأة، والتراكيب اللغوية، والشعر، وراديكالية هؤلاء الشباب.. لاحظنا ذلك بالأخص في أغنية صدرت عام 2018 عن نادي « اتحاد العاصمة » (USMA): « كازا دل مرادية »، وفي ذلك إشارةٌ للمسلسل التلفزيوني الشهير (2) ، ولمقر الرئاسة الجزائرية. وقد حققت الأغنية نجاحاً مبهراً، بعدما أدّتها مجموعة « ولاد البهجة » (3)، وذلك من دون أن نشك يوماً أنها ستكون أغنية الحراك.مقالات ذات صلة
بعد مضي 55 عاما
على الأرجح، هؤلاء الآلافُ من الأنصار الذين كسروا جدار الصمت منذ 22 شباط/فبراير، وشجعوا المترددين على التقدم نحو حركة لم يسبق لها نظيرٌ عندنا من ناحية ضخامتها، ومدتها، ومن دون أن تُهدر فيها الدماء، وهو أمر تجدر بنا ملاحظته في بلد لا يزال مصدوماً من فجائعه السابقة.
في تلك الجمعة، كان هناك في الأجواء تخوفٌ، مثلما هو الحال دائماً، في أقاليمنا البوليسية. إلا أن قوة العدد، والسلمية المعلنة للمتظاهرين أربكت رجال الشرطة الذين بقوا في انتظار الأوامر التي تخوّلهم بأن ينهالوا على الحشود، أوامرٌ من الواضح أنها لم تأت.
الكازا دِل مرادية
لماذا لا نكتبها هاهنا، تلك الأغنية، بالكتابة الجديدة التي اعتادها الجيل الرقمي، تماماً مثلما هي مكتوبةٌ على موقع الأنصار، مازجين بين الكلمات من أصل فرنسي والأرقام العربية. لأنه إن كانت هناك ثورة، فإنها حتماً، وقبل كل شيء ثورةٌ في اللغة، حضور للدارجة، اللغة الشعبية، لغة الشارع كما يقول باحتقار بعض المثقفين الصفائيين (الذين يحرصون على سلامة وصفاء اللغة)، والتي على الرغم من كل ما ينعتونها به، أثبتت بهذه المناسبة أنه بإمكانها أن تعبّر عن كل تعقيداتنا، وأنها مفهومةٌ من الجميع.
ساعات الفجر وما جاني نوم
راني نكونسومي غير بشوية
شكون السبة وشكون نلوم
ملّينا المعيشة هاديا
منذ أول مقطع، نفهم أن شاباً من الأحياء الشعبية يتحدث، أصابه الأرق لدرجة أنه لم يتمكن من النوم حتى آذان الفجر، فقيرٌ هو، إذ يستهلك قطعة الحشيش خاصته بتقتير، ونشعر بأنه تائهٌ في تساؤلات وجودية حول أسباب تعاسته، وهنا تتحول الـ »أنا » التي يتحدث بها إلى »نحن » ليقول: « نحن مللنا من هذه المعيشة ».
فِالأولى نقولو جازت، حشاوهالنا بالعشرية
فِالثانية الحكاية بانت لاكازا دل مرادية
هنا، تنحدر القصة إلى درس في التاريخ الشعبي. في البداية، نالوا منا بأن نكحونا عن طريق تخويفنا بـ »العشرية » (عَقْد الحرب الأهلية). لكن في العهدة الثانية، أصبحت الأمور أكثر وضوحاً، صرنا في لاكازا دل مرادية، تماماً مثل مسلسل لاكازا دي بابل: في اختلاس.
فِالثالثة البلاد شيانت مالمصالح الشخصية
فِالرابعة البوبية ماتت وما زالت القضية
في العهدة الثالثة، خسَّ وزن البلد من كثرة مصّ دمائه عن طريق المصالح الشخصية، وفي الرابعة، ماتت الدمية (بوتفليقة)، ومع ذلك، لم ننته بعد من هذه القصة.
الخامسة راي تسويفي بيناتهم راي مبنية
والباسي راو أرشيفي ب لافوا تاع الحرية
ها هي العهدة الخامسة المدبرة فيما بينهم قد أعلنت، لكن الماضي محفوظٌ في الأرشيف بصوت الحرية.
فيراجنا الهدرة بريفي يعرفوه كي يتقيا
مدرسة ولازم سيفي بيرو محو الأمية
« فيراجنا » (« الفيراج » هو المدرجات الجنوبية التي يجتمع فيها الألتراس) نتحدث فيه بشكل خاص فيما بيننا، وحين نتقيأ كلماتنا يتعرفون علينا، هي مدرسةٌ، يلزمك سيرةٌ ذاتية لتنضم إليها، وهي مكتب لمحو الأمية.
لهذه الأغنية وقع حسن على الآذان، والصور البيانية المستعملة فيها جميلة. هي أغنيةٌ شخصية وجماعية في آن معاً، تُبلور أفكار تلك اللحظة، وتلخّص ما كنا نفكر فيه من دون أن نجد الكلمات للتعبير عنه.
منذ بداية الحراك، تمّ ترديد هذه الأغنية، ليس من طرف أنصار « اتحاد العاصمة » فقط، وإنما من قبل مشجعي « شباب بلوزداد » من شرق العاصمة، و »مولودية الجزائر » من غربها.. وكون الأغنية نفسها ترددت على ألسنة أندية متنافسة، فإن هذا بحد ذاته يعبر عن تغير نوعي.
ثم رددها الجميع، الشباب والشيوخ، من الأحياء الجميلة إلى الأحياء الشعبية، من البرجوازيين الفرونكوفونيين الذين يعملون في الإعلانات، إلى الأمهات اللواتي يتمنين مستقبلاً أفضل لأبنائهنَّ، من الشعبيين إلى القوميين الجدد، مروراً بمناصري الأمازيغية.. كلنا صرنا متفقين فجأةً على المعنى الذي أعطته تلك الأغنية للتاريخ، واستخلصنا منه النتيجة نفسها: لا للعهدة الخامسة..
أغنية « كازا دل مرادية » صدرت عام 2018 عن نادي « اتحاد العاصمة » (USMA)، وفي عنوانها إشارةٌ للمسلسل التلفزيوني الشهير الذي يتناول النهب، ولمقر الرئاسة الجزائرية. وقد حققت الأغنية نجاحاً مبهراً بعدما أدّتها فرقة « أولاد البهجة »، وصارت أغنية الحراك، وترددها كل نوادي فرق كرة القدم، وهي عادة متنافسة.
ثم انهالت الشعارات من كل حدب وصوب في الشارع الهائج، في نوع من الإبداع الجماعي، انطلاقاً من التجرؤ على الشرطة التي خرجت بأعداد كبيرة: « ماكانش الخامسة يا بوتفليقة » (لن تكون هناك عهدة خامسة)، « جيبو البياري، جيبو الصاعقة » (احضروا فرقة البحث والتدخل، وقوات الصاعقة) وكذلك نداءات للأخوّة « الجيش، الشعب، خاوة خاوة »، « نَحي الكاسكيتة وأرواح معانا » (انزع قبعتك وتعال معنا)، وصولاً إلى المطالب ضد الرأسمالية المتوحشة: « كلْيتو البلاد يا السراقين » (نهشتم البلاد يا عصابة اللصوص).
ثم بدأت بعض اللافتات الخجولة في الظهور: « لا للحڤرة » (لا للظلم)، « مسيرة سلمية » واضعين بذلك السلمية التي رُددت آلافَ المرات كدرع حامٍ، كرغبة ضد العنف المحتمل.
كما وكانت هناك مراجعُ من الثقافة العالمية مثل Game of thrones ومسلسل Simpsons، مجاورةً لإجابات معروفة في ثقافتنا لممثلين شعبيين مثل عثمان عريوات والمفتش طاهر.في شوارع العاصمة
العلم الوطني، بكامل رمزيته، رُفع على حافة صنارة صيد، أو ارتدي كعباءة، وأحياناً كمطلب، وأحياناً كدرع، حتى يثبت نبل المشاعر في مرحلة لم نكن نعرف فيها بعد إنْ كانت الشرطة ستصير عدوانيةً معنا أم لا.. وبالحديث عنهم، فإنهم لم يكونوا جد عدوانيين، لم ينته الأمر ببرك دماء، فقط استعملت بضع قنابلَ مسيلة للدموع، لردع أولئك الذين أرادوا أن يصلوا إلى المُرادية، ومدافع المياه، ثم الـ »نمر » وهو جهاز مدجج بمكبرات الصوت القوية التي من المفترض أنها تصدر أصواتاً لا يمكن للآذان احتمالها لدرجة أن المتظاهرين سيبتعدون تلقائياً عنها، وذلك في إطار » التسيير الديمقراطي للحشود ».
كان الحراك مُبهجاً وكأنه مهرجان، حفلةٌ ربيعية صاخبة، زيارة شعبية وشاملة، بسعادة معدية، جوقات ذات وتيرة وقلوب نابضة. وأسبوعاً بعد أسبوع، كان يفرض ذاته مثل حقيقة واضحة بأن هناك فعلاً شيءٌ غير مسبوق يحدث، بحرية، شيءٌ من الفخر والسخرية، والمتعة البالغة في شعورنا بأننا أقوياء ومعاً، ربما.. لا نُقْهر.
صخب جديد يعلو من مدننا، يقول بإننا جميعاً إخوة وأخوات، وبأننا نحب هذا البلد، وبأن له تاريخا، وكنا نرفع صور الأبطال الخالصين أمثال « علي لابوانت »، الفتى المشاغب الذي مات بطلاً في معركة الجزائر، ابتسامة « بن مهيدي » بين أيدي جلاديه، « حسيبة بن بو علي »، الشهيدة الجميلة التي فضلت أن تموت على أن تسلّم نفسها، وأعلام قديمة تعود لزمن الثورة، آثارٌ قيّمة استخرجت من الخزائن.. باختصار، لم يعد من الوارد أن نترك الجزائر بين أيدي مجموعة من المجرمين حين نكون أحفاد شعب قام بإحدى أعظم ثورات القرن الماضي.
كان الحراك مُبهجاً وكأنه مهرجان، حفلةٌ ربيعية صاخبة، زيارة شعبية وشاملة، بسعادة معدية، جوقات ذات وتيرة وقلوب نابضة. وأسبوعاً بعد أسبوع، كان يفرض ذاته مثل حقيقة واضحة بأن هناك فعلاً شيءٌ غير مسبوق يحدث، بحرية، شيءٌ من الفخر والسخرية، والمتعة البالغة في شعورنا بأننا أقوياء ومعاً، ربما.. لا نُقْهر.
كان ذلك قصيدةً جماعية، تحمل معنى، وتتبلور محمولةً من طرف آلاف الأصوات المتماشية:
جمهورية ماشي مملكة (جمهورية وليست مملكة)
أويحي ديغاج (فليرحل أويحي)
هاد الشعب لا يريد بوتفليقة والسعيد،
بوتفليقة أويحي حكومة إرهابية
يونامار من هذا البوفوار (مللنا من هذا النظام)
يا أويحي يا راس الحمار، دزاير ماشي سوريا ( أويحي يا رأس الحمار، الجزائر لن ينتهي بها الأمر كسوريا، وهو ما تنبأ به أو كان يهدد به أويحي)
شعبية ماشي حزبية (شعبية وليس حزبية)
الله الله يا بابا جينا نحو العصابة (جئنا لننزع العصابة – بنغمة شعبية)
إي أو، نحّو العصابة نولو لاباس ( إي أو » انزعوا العصابة وسنكون بخير)
باعوها الخونة (باع الخونة البلاد)
البلاد بلادنا ونديرو راينا (البلاد بلادنا ونفعل فيها ما نشاء)
حكومة فاسدة سيستام العرايا (حكومة فاسدة، نظام فاسق)
ماتحشوهولناش ماناش نوايا (لن تخدعونا لسنا حمقى)
آه أ الموسطاش ماراناش ملاح ( أوه يا شنبات – كنية تطلق على مركبة عسكرية لمكافحة الشغب، تحمل رافعة تتدلى أمامها مثل شنبات – لسنا بخير).
ماراناش خايفين كل جمعة خارجين (لسنا خائفين، سنخرج كل جمعة)
أغ أغ ليزانديان (يطلقون أصواتاً وصرخات غريبة حتى يقلدوا صوت الحرب بين الهنود ورعاة البقر).
آمال وتلاشي الوهم
خُلق طقسٌ ومسار معتادان مع الوقت. في الجزائر العاصمة، بعد صلاة الجمعة، تنطلق المواكب من الشرق، ومن الغرب الشعبيين للعاصمة، حتى تتلاقى وسط المدينة بمبانيها الضخمة على الطراز « الهوسماني » (4) (Haussmannien). صار الأمر بمثابة حج بعدة مناسكَ: المركز الكبير للبريد وسلالمه، بناية كولونيالية بطراز شرقي، نهج باستور ومصحته التي يسكت الجميع أمامها حتى لا يُزعجوا المرضى. السلالم على طول ثانوية عمر راسم، والتي تصبح خشبة مسرح مرتجلة لجوقات الأنصارالالتراس الشباب، الذين يفرضون قوانينهم ومظاهرهم ولغتهم على الطبقات الوسطى التي تتقبل مسار الأمور، نفق الجامعة ووقع صدى الأغاني والزغاريد فيه، ساحة « أودان »، العودة أمام باب الجامعة التي يستقبل رصيفها الواسع عدة مجموعات ثابتة. التروتسكيون الذين يطالبون بمجلس تأسيسي، النسويات شكّلن « مربعاً »، ثم سرعان ما جاءت عائلات معتقلي الحراك.
هناك فتيان يتعلقون بأعلى أشجار التين المشذبة على شكل مربعات طول الطرقات، كانوا أشبه بفواكه غريبة وسعيدة تتدلى. كانت هناك لافتات ولوحات، إبداعاتٌ غير معتادة، وأرصفة غير متوقعة، رجال ونساء يحملون مطالبهم وآمالهم على ظهورهم بأطراف أياديهم، مكتوبةً، فكروا فيها ليلاً، مرسومةً ومخططة بالعربية طبعاً، لكن بالإنجليزية والفرنسية كذلك، أو بخليط من كل هذه اللغات. هذا الجيل الذي تلقى الحق في التعليم المجاني والإجباري منذ ستين عاماً، والذي ينوي استعماله.مقالات ذات صلة
الجزائر: اللامرئيون في « ثورة الابتسامة »
أجل، نحن مبتسمون ونحب أن نظهر بمظهر لائق، وحراكنا مختلط وعابر للأجيال وللطبقات الاجتماعية. الأشخاصُ ذوو القدرات الحركية المحدودة كانوا معنا هنا أيضاً، وكونهم يبقون مع الحشد بكراسيهم المتحركة فعل مؤثر ووطني. الرجال يراقبون ألفاظهم، لا ينطق أي منهم بكلمة نابية، وكل ذلك في اتفاق ضمني، لجعل الجميع يشعرون بالراحة، وهو أمرٌ مهم نظراً لكون طرقاتنا في الغالب ذكورية، حيث تتم الإشارة كثيراً إلى العضو الذكوري، وحيث ترد فروج الأمهات دوماً في المنظر الصوتي..
خُلق طقسٌ ومسار معتادان مع الوقت. في الجزائر العاصمة، بعد صلاة الجمعة، تنطلق المواكب من الشرق ومن الغرب الشعبيين للعاصمة، حتى تتلاقى وسط المدينة. صار الأمر بمثابة حج بعدة مناسكَ: المركز الكبير للبريد وسلالمه، نهج باستور ومصحته التي يسكت الجميع أمامها حتى لا يُزعجوا المرضى، السلالم على طول ثانوية عمر راسم، والتي تصبح خشبة مسرح مرتجلة لجوقات الألتراس الشباب
أجل، نحن لا نزال سكارى بالفرحة، بهذا الشيء المذهل الذي يحدث لنا، وكأن الريبة سقطت بيننا، وكأنه صار بإمكاننا أخيراً أن نكون شعباً، معاً ومختلفين عن بعضنا البعض.
انتهى الأمرُ بالتجار بأن اقتنعوا بالسلمية المطلقة لهذه الحشود، لم تكن هناك واجهةٌ واحدة مكسورة، وكان الجميع ينظف الشوارع حين ينتهي الحراك، لنترك المدينة نظيفةً تماماً. لذا، فتح التجار محلاتهم في الطرقات المجاورة، وصار بإمكاننا أن نشرب ونأكل، أن نشتري أعلاماً ورايات وشارات، وكل هذا في ظل جوّ لطيف، وأسابيعَ جميلة نستمتع فيها بالحلم.
أحد أكبر التغييرات التي طرأت خلال تلك الأيام المجنونة كانت علاقتنا بالصورة (5).
في عهد التليفونات الذكية، يصير كل شخص مراسلاً، نلتقط سيلفيات لنقول إننا كنا حاضرين، كما ونوافق، بل ونطلب من الآخرين أن يلتقطوا فيديوهات وصوراً لنا: صوّر.. صوّر! وهو أمر غير متوقع في بلد كان يتعامل حتى الآن بريبة مع عدسات الكاميرا، وكأننا كنا دوماً نخاف من أن تُسرَق منا أرواحنا، وأن نكشف عن أنفسنا بذلك.
نحن مبتسمون ونحب أن نظهر بمظهر لائق، وحراكنا مختلط وعابر للأجيال وللطبقات الاجتماعية. الأشخاصُ ذوو القدرات الحركية المحدودة كانوا معنا هنا أيضاً، وكونهم يبقون مع الحشد بكراسيهم المتحركة فعل مؤثر ووطني. الرجال يراقبون ألفاظهم، لا ينطق أي منهم بكلمة نابية..
هناك نوع من ولادة لـ »أنا »، ذاتية بصدد التكون، تظهر نفسها لنتعرف عليها كفرد مواطن طموح، كان مخنوقاً حتى ذلك الحين تحت وطأة الكلمات الساحقة مثل: « الكتل الشعبية »، « الشعب »، « العائلة »،
« القبيلة »، « الطلبة »، « النساء » « الشباب والشيوخ »، « القبايل »، « العرب »، « الإسلاميين »، « الديمقراطيين » إلخ.في شوارع العاصمة
نحن هنا لنشهد بأننا ما سمّاه « جان سيناك » « مواطنو الجمال ». وهو ذلك الشاعر الجزائري الفريد من نوعه، والذي اغتيل في الجزائر العاصمة عام 1973.
على يوتيوب، هناك ما يشبه فيلماً بعرض كبير ينتظر أن يتم تركيبه، فيلمٌ بآلاف وجهات النظر، آلاف الكاميرات، آلاف الزوايا، من أجل حدث واحد.
ثم سقط بوتفليقة يوم 2 نيسان/ أبريل. نراه بجلابة رمادية على التلفاز، يبدو غاضباً وهو يعلن استجابته.
« يتنحاو قاع » (فليتنحوا جميعاً)
قناة تلفزيونية إخبارية جاءت من عند « جيراننا في المشرق » – إذ تفرخ هذه الأخيرة عندنا – وقررت أن تبث بثاً مباشراً من ساحة « أودان » حتى تظهر بضع سيارات تعلن بأبواقها مزامير الفرحة.
تتحايل المقدمة بالفصحى، مثرثرةً معلومات عامة حول رضى الشعب بانسحاب بوتفليقة، وهنا يتدخل سفيان، شابٌ يعمل في إعداد البيتزا في الحي. بشكل غير متوقع، يقف أمام الكاميرا ويفرض نفسه، ويعلن بالدارجة: « ماكاش منها، ماناش مقتنعين .. لازم يتنحاو قاع » (هذا غير صحيح، لسنا مقتنعين أبداً، يجب أن يرحلوا جميعاً). تندهش المقدمة التي تطلب منه أن »يترجم إلى العربية »، لكنه يرد عليها من دون أن يضطرب: « هذه هي لغتنا »، كنوع من الـ »تدبروا أمركم مع هذا ».
صار سفيان أيقونةً على الفور، واحتل وضعية الحراكي الراديكالي الذي لم يكتف بالمطالبة باستخدام لغته الأم وحسب، بل وبالأخص لكونه أعطى دفعةً وشعاراً للسأم العام من الوضع، بلغة لا يمكن ترجمتها: « يتنحاو قاع »، لا يقتصر الأمر على انتزاع بوتفليقة فقط من كرسيه، وإنما كل « النظام »، وهو بالطبع أمرٌ أكثر تعقيداً.
في تلك الأثناء، أخذ قائد الجيش زمام الأمور. الجنرال أحمد قايد صالح دخل التاريخ بطريقة غير متوقعة، لأنه أوقف وحبس العديد من الفاسدين المدنيين والعسكريين، ولأنه ردد بتمجيد: « الحراك المبارك »، لكن ولأنه زرع كذلك بذور الفتنة والانقسام، وذلك بأن جرّم حمل الراية الأمازيغية، التي كانت جزءاً من تجهيزات رايات شوارعنا، بجانب العلم الوطني والعلم الفلسطيني. وحينها، تحولت هذه الثلاثية التي تجمع بين الهوياتية والوطنية والدَولَية في انسجام تام، إلى انقسامات وضغائن وجدالات ثانوية.
وفي وسط كل هذا، صار من الصعب على الصوت الصغير لحراك البدايات، التحرري والشغوف، أن يُسمِع صوته، جاء مناضلو الهياكل التقليدية الذين ذهلوا بهذا الحراك الذي لا يدين لهم بشيء، وحشروا أنوفهم ليذكّروا الشباب بضرورة ألا يحتفلوا كثيراً، والنسويات بأنه يجب ألا يدّعوا أكثر من اللازم، واليساريين بأنه ليس وقتَ الثورة الاجتماعية، سندعوهم جماعة « هذا-ليس-وقت-كذا ».. تغرق الحركة السلمية، حتى وإن بقيت ثابتةً ومضبوطة الوتيرة والأمل في تغيير الأمور سلمياً حتى نذهب للأفضل..
أسبوعاً بعد أسبوع، صارت الشعارات تتغير: يجب أن »نحرر المعتقلين ». يصير الغضب أكثر دقة: « الجنرالات إلى المزبلة »، الانتقال من « دولة إسلامية » إلى « المغاربية، قناة الشعب »، تظهر المجموعات المتضادة، تهجر غالبية الجماعات الطقوس قليلاً، الاعتقالاتُ العشوائية نوعاً ما تخلق لجاناً لمساندة المعتقلين، الكثيرون يعتقلون في الحبس الاحتياطي الذي يَطُول بشكل لا يحتمل.
الجنرال أحمد قايد صالح دخل التاريخ بطريقة غير متوقعة، لأنه أوقف وحبس العديد من الفاسدين المدنيين والعسكريين، ولأنه ردد بتمجيد: « الحراك المبارك »، لكن وأيضاً لأنه زرع بذور الفتنة والانقسام، حين جرّم حمل الراية الأمازيغية، التي كانت جزءاً من تجهيزات رايات شوارعنا، بجانب العلم الوطني والعلم الفلسطيني.
ثم يُنتَخب عبد المجيد تبون رئيساً للبلاد، في 12 كانون الأول/ ديسمبر، وهو أمرٌ ليس حسناً. ونظراً للسياق، تمت مقاطعة الانتخابات بنسبة كبيرة، لكنه انتُخب رغم ذلك. لم يكن الأمر جديداً، فهو خرّيج الحاشية نفسها، وجيل سابقيه أنفسهم، وهو ما لم يكن ليهدِئ من روع « الحراكيين » الراديكاليين.
ثم مات أحمد قايد صالح في 23 كانون الأول/ ديسمبر. وكان ذلك نوعاً من رمزٍ لموت طبقة السلطة من الذين بلغوا الثمانينات من أعمارهم، وهم يتعلقون يتشبثون بمناصبهم، بينما الشبيبة تُتعب رئتيها بالصراخ.
في تلك الأثناء، تم منع كل المحطات الرمزية لحجّنا الوطني من طرف الشرطة: سلالم مركز البريد الكبير، سلالم نهج باستور، وكذلك النفق الروحاني.. اعتدنا على المشي وسط الجدران المرتفعة التي تبنيها مركبات الشرطة المتراصة والتي تضيّق إلى ممرات، وتمنع عنا بعض المسارات، وتفسد علينا بهجتنا الجماعية بأن تحصرنا بين الدروع ذات الزجاج غير القابل للكسر، والخوذات الزرقاء.
ينقطع الإنترنت، يشوّش مع تحرّك الحشود، في محاولة بائسة للسيطرة على التواصل.
عند مخرج النفق
بالطبع، في صفوف « الحراكيين » تُنكَر هذه الحقيقة. يريدون أن يقنعوا أنفسهم بأن روح الـ 02/22 لا تزال موجودةً، وأنه ليست هناك من انشقاقات في الصفوف، وأن التغيير لا يزال ممكناً طالما لا يزال الشعب متحداً. لكن هناك أثقالاً في جناح الحراك، الكلمات والشعارات تصبح أكثر قسوة، صرنا ننعت بعضنا بـ »الخونة » و »الحرْكي » و »العملاء » و »ولاد فرنسا » بسهولة، نرفض أي حل وسطي وأي حوار، نُتعب أنفسنا في الصراخ بأن لا شخصَ له الصلاحية للتحدث باسم الحراك، وفي المطالبة بتحرير معتقلي الرأي.
المتعصبون للدين وللهوية وحتى للجيش يبالغون في الأمر، ووباء فيروس الكورونا مثل حليف عالمي للأنظمة البوليسية، يأتي لينهي الحراك، في الأسبوع الثاني من آذار/ مارس تقريباً، حين تم إعلانُ الحجر الصحي.
خاتمة: سمفونية العالم الجديد
عبد الرحمن بن سالم موسيقيٌّ، آلته هي الأوبوا، يناديه أصدقاؤه « بَحرْ ». هو خريج المدرسة العليا للموسيقى، عضو الأوركسترا السمفونية للشباب، مؤلفٌ موسيقي في ساعات فراغه. وبالنسبة له، الحراكُ هو أولاً موسيقى ملحّة تسكُنه. بعيداً عن الخطابات، أذناه كانتا تسمعان شريطاً مذهلاً من الأصوات، والإيقاعات والنشوة الجماعية. الروح أكثر من الكلمة، جوقات بلدٍ – قارّة، أخرج على مدى عام كل آلاته، من قرقابو العيساوة إلى بندير النساء القبائليات اللواتي كنَّ يغنين في الساحة مثل كاسندرا: الأيام الصعبة والخوف، الجوع والمقاومة، مروراً بفوفوزيلا الملاعب الإفريقية، الطبول، والدربوكات، الأيادي التي تضرب، الزغاريد، وصفارات إنذار سيارات الشرطة.. هذا الشريط الصوتي الذي يسكننا، الذي يبقى في آذاننا، والذي سيتعرف عليه أيٌّ منّا من النوتة الأولى، قرر أن يكتبه، أن يحوله إلى سمفونية من أجل أوركسترا..
وعلى طاولته، تتراكم القطع الموسيقية. حين تسمع النموذج الذي أعده، يبقى منه شيءٌ جوهري. ليست هناك كلماتٌ ولا شعارات، لكننا نتعرف فوراً في تصاعد الحبال أو في قرع آلات النفخ، على ألحان الحراك، إيقاعه، انقطاعاته، سخطه، آماله، فقط أنغامٌ ونبضات شعب تجرأ يوماً على الحلم بمصير أفضل.
الحراكُ هو أولاً موسيقى ملحّة تسكُن عبد الرحمن بن سالم. بعيداً عن الخطابات، أذناه كانتا تسمعان شريطاً مذهلاً من الأصوات والإيقاعات والنشوة الجماعية. الروح أكثر من الكلمة، جوقات بلدٍ – قارّة، أخرج كل آلاته. قرر أن يكتب هذا الشريط الصوتي الذي يسكننا، الذي يبقى في آذاننا، والذي سيتعرف عليه أيٌّ منّا من النوتة الأولى، ويحوله إلى سمفونية اوركسترالية.
اليوم، في هذا البلد الملائِم لما هو غير متوقع، لا أحد بإمكانه أن يتنبأ بمستقبل طُموح « بحر ». أسيكون قدّاسَ موتى، أو نشيداً للسعادة، أو موسيقى صغيرة ليلية لعودة المعتاد، الأحسن أو الأسوأ، حتى ولو كنا نعلم أنه، مثلما كان الحال دائماً، سيكون الأحسن والأسوأ.
وسنحمل دوماً في قلبنا المقاومِ الأملَ بأن يصبح الشعب قائد أوركسترا، أخيراً.نوتة السمفونية ويدا بحر
شهادة
خديجة مركمال: « بالنسبة لمصوّرة فوتوغرافية، هناك ما قبل الحراك وما بعده »
خديجة مركمال مصورةٌ محترفة، ارتبطت على مدى سنة بمجموعة من أنصار كرة القدم، تبنتهم، وتبنوها بدورهم، بفضل نعمة الصورة. هذه شهادتها أمام عمر زليق.
في البداية، كانت خديجة حذرةً، لم تكن تستعمل سوى هاتفها الذكي قبل أن تُخرِج آلة التصوير المحترفة بطلب من الشباب الذين كانوا يريدون لأنفسهم صوراً ذات جودة عالية حتى يخلّدوا سحر تلك اللحظات.
تشهد هنا بأنه لم تكن هناك أيُّ حدود، رجل/امرأة، غني/فقير، لتقاوم هذه الحركة حين استولى الأفراد، الأحرار، على التاريخ، وتركوا آثاراً به.
**
« لولا الحراك، ربما لم نكن لنلتقي. تعرفّنا على بعضنا البعض في المواجهات التي جرت في البداية، مع الرصاصات المطاطية والقنابل المسيلة للدموع، وانتهى بنا الأمر في منزل أحدهم. بهذه الطريقة الطبيعية تآخيت مع هؤلاء الشباب. كنت أريد أن أفهم الحراك، كنت أريد أن ألتقي مجموعةً لا فرداً أو توجهاً، وأكون شاهدةً على تلك اللحظة من دون انحياز. شاهدنا كأس إفريقيا معاً، ونتشارك لحظات من حيواتنا. ذهبتُ لأحضر محاكمة أحدهم، واحتفلوا هم بزواجي، ودعوني لاحتفالات الذكرى السنوية للمولودية (نادي كرة القدم)، اكتشفنا أننا في الواقع نتشارك الشباب نفسه، شباب أطفال العام 2000.
كانت أول مرة في حياتي المهنية أجد نفسي فيها وسط مجموعة حيث يُطلب مني التقاط الصور ومشاركتها، بثقة كاملة، حتى لو كنت الفتاةَ الوحيدة في الشلّة.. أحببت هذا كثيراً. كانوا يحبون رؤية أنفسهم، حتى على الصور السيئة. كانوا يوجّهونني كذلك حتى آخذ لهم صور بورتريه أنيقة، تُبرزهم بشكل أفضل. وبالنسبة لهؤلاء الشباب الذين يلعبون بآلاتهم عادة في الملاعب، فإنهم لم يكونوا يمشون في الحراك فقط لإصدار الأصوات. جمهورُ الحراك كان مهماً في نظرهم. كانوا يقفون عند مدخل محطة المترو للبريد المركزي، ويتوتّرون من الجمهور، مثلَ فنانين حقيقيين، ويرغبون في القيام بتقديمات موسيقية جميلة. أحدهم فقد ثلاثة أصابع لكثرة ما كان يضرب دربوكته، هو عازفٌ قديم للشعبي انضم لشلّة « الحومة »، شلّة الحيّ.مقالات ذات صلة
بالنسبة لي كمصوّرة، فسيكون هناك ما قبل الحراك وما بعده، وكأن الفضاء العام انفتح فجأةً أمامنا ، تغيرت علاقتنا بالصورة. حتى ثقافة الصورة تطورت، تعلمنا أن نرى أفضل، أن نشاهد بشكل أفضل، صرنا أكثر تسامحاً، ونرى العالم على تدرّجات اختلافاته. لم يعد الناس يروننا كمتفاخرين، كذابين، أو تطفليين، لكن كوسائط لتمثيل واقعنا. الشرطة لا تزال مرتابةً، بعيدة جداً عن الانفتاح الفكري للشعب. في كلّ مرة يوقفونني فيها، يريدون أن يعرفوا إن كنت أبيع صوري للخارج. بالنسبة لهم، فإن بطاقاتي كحرفيّة مصورة أو كفنانة، والتي صدرت عن وزارة الثقافة، من المفروض أنها تحصرني في خانة تصوير حفلات الزواج وعروض الأزياء، والقيام بصور داخل المنازل وليس في شوارعنا ، لأنها في هذه الحالة تصير صحافةً، وبالتالي سياسة. بالنسبة لهم، هذا هو العدوّ. هذه عقلية قديمة. على كل حال، أُخِذَت صوري من كلّ مكان، حتى الصحافيون، كان هناك منهم من لم يشعروا بأن عليهم أن يخبروني قبلَ أن يستعملوها ليزودوا مقالاتهم بها، مقالات لم يروا بأنه من المفيد/ الضروري أن يجعلوني أقرؤها أيضاً
قبل وضع صوري عليها. نحن لا نتحكم فعلياً في المشاركات والإعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنا كنتُ أشارك صوري لتكون بمثابة شهادات على تلك اللحظة، وليس لأستفيد منها بطريقة ما.الموسيقيون الشباب
• كل الصور المصاحبة لهذا النص التقطتها عدسة المصورة الفوتوغرافية خديجة مركمال
• ترجمت النص من الفرنسية رحيل بالي
محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.
1- هو الاسم الشائع لناشط جزائري يعيش في ألمانيا، ويحضر بكثافة على وسائط التواصل الاجتماعي ويركز على الفضائح المالية والجنسية للسياسيين الجزائريين.
2- المقصود مسلسل La casa del papel
3- الاغنية في المدارج https://www.youtube.com/watch?v=L3IcT5mFxFs
4- وهو محافظ باريس 1853-1870 في ظل الامبرطور نابليون الثالث، وقد أعاد تنظيم عمارة المدينة وشق البولفارات الواسعة، ما اعتبر تحديثاً، لكنه كان يهدف أيضا الى التخلص من انتفاضات وعصيانات الشوارع التي ميزت القرن التاسع عشر الفرنسي.
5- أنظر الملحق عن شهادة المصوِّرة خديجة مركمال