ليس مما يُختلف فيه أن التاريخ يُختلف فيه، ويُختلق في روايته، في توظيفه أحقابه، في تزوير أحداثه، لكن أن يُسيطر عليه بلسان واحد، فهذا مما يغدو أبشع الجرائم ضد العقل كونه لا يحتبس الانسان فحسب، بل والأوطان أيضا، وفي أقدس ما يمكن أن تنعم وتخدم به وعيها الوجودي ووجود وعيها وهي ماضية في التاريخ تروم صناعته إلى جانب بقية المجتمعات والشعوب.
هكذا هو شأن التاريخ في الجزائر مذ استقلت البلاد تم مزجه ليس بالسياسة بمفهومها الفلسفي والمعرفي بل بمفهومها العملي الصراعاتي، فألجمت الأفواه غير المروضة، وضرب على حرية التعبير في الزمن السياسي بأبعاده الثلاثة، الماضي، الحاضر والمستقبل باب من حديد ظاهره فيه مصلحة الوطن وباطنه من قبله القمع والمنع.
نقف اليوم على ذكرى عيد النصر كتتويج لاتفاقيات إيفيان بين الحكومة المؤقتة التي ترأسها الراحل بن يوسف بن خدة والحكومة الفرنسية والتي بمقتضاها تم إقرار وقف اطلاق النار وتنظيم استفتاء شعبي بخصوص الاستقلال، ورغم العقود الست الفاصلة بين هذا الحدث وواقع البلد اليوم المصطخب المضطرب على كل الصعد وفق لمنحنيات خط الوعي الشعبي الممتد من لحظة انفلاق الخلاف وافتراق الاحلاف وانفراط العقد الأخير للحركة الوطنية بعد استيلاء جيش الحدود على السلطة بالقوة، لا يزال الضمير الوطني في الجزائر حائرا بإزاء تاريخه النضالي والجهادي لا يعرف كيف تمت ترجمته من قبل، ليس كما اصطلح عليه في خطاب السلطة بـ”الأسرة الثورية” وإنما بنخب الثورة.
وما يزيد من حيرة هذا الجزائري هو أننا نتكلم عن فترة تاريخية لا تزال نابضة بالحياة ليست أركيولوجية، أو متحفية تأويلية تحتاج إلى فرضيات العقل في استنطاق بدل البشر الحجر، إذ كان بالأمس القريب جل الفاعلين في مسارات التفاوض حول اتفاقية افيان حاضرين بين ظهرانين الشعب!
لكن السلطة التي مدت يداها وتمددت على كامل رُقع ومساحات المجتمع المادية من والرمزية، أبت أن يكون التاريخ في حقيقته مباحا للجميع، فصنعت جسدا خوارا له لينظر إليه الشعب على أنه هو ذا منتوجهم في مسارهم الكفاحي وغيره ليس سوى تشويشا على الوطن وتشويها للتاريخ، وترسخت هاته البدعة كثقافة لدى الكثير من إطارات هاته السلطة حتى صار شأنا أيديولوجيا مرتبطا بمفهوم خاص للوطنية.
فوقتما كانت المدارج في الجامعات والمدارس في الابتدائيات مطروبة بمعازف من زيف التاريخ النضالي للشعب من أجل الاستقلال، كان الفاعل الثوري يقبع في محظور المكان والزمان، في إقامات الجبر يجتر على أوراقه لحظة إيفيان وفصول المفاوضات وكل ما شاكلها واستشكلها من قاضايا العمل الثوري الوطني، حتى إذا ما بدأ الصدع ينخر كيان السلطة مع رحيل هواري بومدين صارت الحقيقة تتبدى من خلال الشروخ والشقوق التي سببها الصدع ذلك، في جدار المنظومة الحاكمة وغدا الشعب يسعى إلى إعادة اكتشاف ماضيه بمنهج التقطير!
فهي مصيبة الشعوب التي خانها رصيدها من الوعي الثوري إذ يمتزج واقعها بماضيها داخل مسرح الصراع أو مصرع السراح السياسي، فلا تعرف من أين بدأت قصتها في العمل الوطني وأين تنتهي، طالما أن الحقيقة التاريخية ظلت واقعة بين نخب الفعل السياسي التاريخي ونخب المعرفة التاريخية للسياسة الناقلة لخطاب السلطة.
فليست اتفاقية إفيان في مساراتها وطوايا ملفاتها الحقيقية بتلك التي درستها الأجيال وكتبت عن نخب البحث التاريخي التي تدعي النزوع إلى الحياد المعرفي والموضوعية العلمية في كتابة الحقائق التاريخية، وكان يمكن أن تلام نسبيا في ذلك لو أنها تركت هامشا ينزع عما انتجت منطق اليقين، فجل الكتابات والبحوث والدراسات ادعت أن خلاصاتها وقصاصاتها حول الاتفاقية (إيفيان) وحول كثير من قضايا الثورة الجزائرية الشائكة بمحطاتها المظلمة أنها الحقيقة التي يلابسها شك ولا يلامسها ظن.
فواضح إذن، هو أن الجاهل بمنطق التاريخ وأسلوبه في التقلب والتغيير يعتقد أنه بوسعه السيطرة عليه واصباغه بمنطقه ومنطوقه إلى الأبد، وتزييف حقائقه بغرض التمركز فيه والاستصنام في باحة تماثيله البطولية، عبر قمع صوت من صنعوا هذا التاريخ وكان فيه فاعلين وافتعال أصوات حاملة لخطابات معرفية معلفية (من العلف) تقتات على فتات تاريخ السلطة المرمية ببلاطات قصورها.
فالعقل الوطني في الجزائر يحتاج اليوم إلى اتجاه ثالث في الخطاب التاريخي بعدما رحلت الذاكرة الحية برحيل الفاعل الثوري المباشر، واستمرار حضور خطاب معرفي (رسمي) بالثورة يسود المكتبات بالمدارس والإكماليات والثانويات والجامعات، اتجاه يعيد تسليط دائرة الضوء على المساحات التاريخية الكبرى التي سلطت عليها دائرة الظلام لعقود عدة حتى يعرف الانسان الجزائري من خلال ماضيه ما يوجعه في حاضره.