في الذكرى الرابعة بعد الثلاثين لما يُعرف في التاريخ السياسي للجزائر بأحداث أو انتفاضة أو ثورة أكتوبر 1988 التي أريد من ورائها ظاهريا تحقيق الانتقال السياسي بوضع حد للنظام الأحادية، بينما خفيا وحسب البعض، أريد من ورائها حسم الصراع الضاري آنذاك داخل السرايا بين الجناحين المحافظ والاصلاحي – في هاته الذكرى – رأى الصحفي الجزائر محمد إيوانوغان، أن السلطة لا تعتبر 05 أكنوبر 1988 بالفارقة في التاريخ السياسي الجزائري، فهي إن لم تراها عادية كهزة شارع مثل بقية هزاته السابقة واللاحقة، فإنها تراها سببا لما تلاها (الذكرى) من مآسي، وبالتالي فهي تدين من خلالها، بشكل ضمني الجناح الإصلاحي داخل المنظومة وتحمله المسئولية لما يحدث للبلد اليوم.
هكذا رؤية لحدث مهول أريد له أن يتحنط في خطاب التاريخ وقاموس الأزمة السياسية بالجزائر في نطاق الذكرى ولا يعدوها إلى مجال التفعيل الواقعي أو التفاعل في النقاش الوطني عل الأقل، تكشف بالضرورة عن عمق الأزمة السياسية التي تعيشها “الوطنية” الجزائرية باعتبارها مشروعا سياسيا استنفد مضمونه الأيديولوجي واستهلك تجربته في الحكم وصار بإصراره على الاستمرار، معيقا للمجتمع في إعادة تموضعه في تاريخه السياسي منتجا لوطنيته الممتدة إلى تراثه والمتقدمة باتجاه المستقبل.
فالسلطة من بعد أكتوبر، دخلت في أزمة وجودية غير مسبوقة، أساسها انتفاء مبرر البقاء، وفقدان المشروع السياسي، ما يعني غربتها السياسية والاجتماعية، لذلك عمدت إلى تغيير الاستراتيجي في ظل خسارتها لصراع الخطاب مع جيل جديد قاطع (الخطاب) سمعا ووعيا، في تعامل مع قوة الإرادة والرغبة التغييرية للمجتمع بالتحول إلى المؤسسة الصلبة لملء مل فراغات سلطة الواجهة وحسم معارك التغيير والانتقال السياسي، وهذا أحيانا بشكل مباشر، انقلاب 1992 و2019 وفي في أحايين أخرى بشكل غير مباشر عبر الإدارة الخفية والخلفية الحقيقية للمشهد السياسي التعددي والاستحواذ عليه على مستويات عدة، بدء من القمع والمنع، كما حدث مع تيار المغالبة الاسلاموي، وتيار القطيعة في جبهة التحرير الوطني للراحل عبد الحميد مهري، إلى الاغراء والاغواء مع تيار المشاركة الاسلاموي الاخواني، والأحزاب العلمانوية المصطنع منها والمتمنع عن الاصطناع .
هكذا استراتيجية في السيطرة على السياسة عقلا وحقلا، من قبل سلطة تعيد في كل أزمة انتاج نفسها بذات أدوات انبلاجها القديمة، أسهمت بشكل كبير في الإعاقة الكبيرة التي يعانيها المجتمع الجزائري اليوم في تعاطيه مع قيم المواطنة وعيا وعملا، ولم يعد يعبئ بالبعد المؤسسي كأساس لسلطة التغيير وتغيير السلطة، والشباب صار ينظر إلى الحياة متحررة أول بتعبير أدق منفكة عن كل أسباب ووسائل بنيوية مجتمعية تنهض بها مؤسسات وقوانين، فعزف عن السياسة واختزل الوطنية في جوانبها الرمزية وسخر من التاريخ الوطني ثم انتهى إلى هوس المغامرة في أعالي البحار بحثا عن الجنة التي احترقت في وطنه واختفت.
فالأزمة اليوم هي استمرار لتراكم محطات كبيرة من السؤال الوطني تم الدوس بدلا من الإجابة عنه، في تكريس حقيقي لسياسة الهروب إلى الأمام، التي مع تعاظم تراكمها في تجربة الصراع السياسي بالجزائر تتعاظم خطورتها على الأمة والمجتمع معا، لكون هاته السياسة (الهروب إلى الأمام) تعني محاولة تجسير الفراغ بالاعتقاد أنه وسيلة للعبور، في حين الطبيعة كما يقال لا تحتمل الفراغ، فكيف تحتمله السياسة والتاريخ باعتبارهما من أجل عناصر السعي إلى الحقيقة وبلوغ الممكن.
لكن إذا كان هذا هو واقع موقف السلطة مع محطات التغيير التي أضاعها المجتمع بدء من أكتوبر 1988 إلى حراك 2019، برفض كل تلك المحطات من دون أفاق بديلة موضوعية تتيح للمجتمع فرصة السريان السلس في السياسة والتغيير وفق سيادة شعبية حقيقة وتامة، فما هو دور النخب المعارضة عبر كامل مستوياتها؟ وما درجات مسئوليتها في ذلك؟
إذا كانت السلطة كما أشرنا إليه أعلاه قد استنفدت كل وسائل التعبير عن نفسها في المجتمع خطابا وممارسة، فهذا لا يلغي حقيقة أنها كانت تتحول في الوسائل والاهداف وإن عجزت عن التطور في الخطاب بسبب الانهيار الأيديولوجي الذي شكل سمت واسمنت تماسكها (خطابيا) لفترة طويلة، ومن وسائل تحولها هو اختلاقها لفاعل سياسي مواز، تديره من الخلف فإن نخب المعارضة قد أظهرت عجزا تاما لا في مقدرتها على تحرير المجتمع، فهذه النخب قد ظهرت أبعد ما تكون عن هكذا أفق واعد، بل في أن تحرر هي نفسها من سيطرة السلطة عليها واقتيادها لها طوعا أو كرها، من هنا ارتسم المشهد السياسي الجزائري من بعد أكتوبر 1988 بأبعاد ثلاثية، سلطة تصارع من أجل البقاء رغما عن المجتمع والتاريخ، مجتمع يناضل من أجل تغيير يشعر به ولكنه لا يكاد يلمسه أو يتلمسه في وقعه، وأخيرا نخب سياسية لم تعد تدرك حقل نشاطها الطبيعي، بعد إذ عجزت عن التحرر من سيطرة السلطة عليها، وتجريدها من كل عناصر القوة المؤثرة فاستحالت بدورها بلا جدوى في منظور المجتمع.
وعليه ينطرح بقوة السؤال حول مهمة وجدوى وجود النخب المعارضة أو كما تسمي هي نفسها؟ وما هو مرتكز عملها المستقبلي؟
عكس ما يذهب إليه البعض بشي من السلبية والتشاؤم القاتم، النخب السياسية الجادة في الجزائر كما في المحيط العربي ككل لم تمت بشكل نهائي، ولا حتى سريريا، فهي حالة تخلف استراتيجي كبير على رقعة الشطرنج السياسي في مواجهة نظم ومن خلالها قوى دولية، وأول أسباب سقوطها هي زعمها الحرص على إنقاذ المجتمع بدلا من أن تحرص على انقاذ نفسها بالمجتمع، بمعنى أن تعبر بما لديها من منظومة مفاهيمية ومشروع داخل مستويات الوعي والقدرة والإرادة المجتمعية، بما يمكنها، من ناحية من التحرر من طوباويتها وورديات أحلامها، ويمكن المجتمع من التعبير عن نفسه من خلالها، فالتجربة أكدت بأن إرادة اقتياد المجتمع بالقوة في الشارع، على شاكلة ما كانت تفعله جبهة الانقاذ ليست بالمجدية، ولا الإرادة النقيضة بالمشاركة على شاكلة الاخوان والتيار الوطني المروض كانت بدورها هي الأجدى.