كثيرا ما يطرح السؤال لو على مستويات ضيقة في الجزائر، حول سبب إخفاق المعارضة في بلوغ التغيير السياسي بالمجتمع، وما إذا كان ذلك فعلا دليلا على عدم قدرة المجتمع السياسي على افراز نخبة قوية من الساسة الذين لهم تمام الوسع والدراية في كيفية بسط إرادة التغيير المرجو وفق استراتيجية سلمية وسليمة على شاكلة ما حصل مع بلدان أوروبا الشرقية التي تخلصت من غير دماء ولا دمار من نظم حديدية حكمت لمدد زمنية ناهزت النصف قرن.
السؤال يبدو في مضمونه شرعيا كونه يكشف عن خيبة المسعى التعددي الذي ولجت نطاقه الشكلي الجزائر منذ أزيد من ثلاثة عقود، لكن الإجابة عليه تفرض استحضار عناصر تاريخية معقدة لارتباط السياسة بشكل عضوي بالتاريخ في التجربة الوطنية بالجزائر وهذا مذ انبسط الوعي بالذات كتعبير نهائي عن تشكل مستقل للكينونة من قبل الحركة الوطنية التي كانت النواة السياسية لنشوء السلطة والمعارضة على النحو الذي ستعرفه دولة الاستقلال فيما بعد.
فمعروف أن الوطنية في الجزائر هي محصلة عمل نضالي مشترك فرضت فلسفتها القائمة على الجمع بين ما هو سياسي وعسكري الظروف التي عاشتها البلاد والطبيعة الاستيطانية للاستعمار غير تلك التي مرت بالبلدان الأخرى تم التعبير عنها بالحماية، فالراديكالية الاستعمارية هي التي أفرزت رد الفعل الراديكالي التحرري الوطني لثوار الجزائر، بدليل أنه حتى تلك التيارات التي سايرت قبلا الاستعمار، من خلال سياسات الاندماج وتحقيق المكاسب الجزئية من المطالب الوطنية، اقتنعت بعدم جدوى ذلك التوجه وتبنت الخط الثوري، وهكذا توهج للراديكالية الوطنية سيترسخ مع توالي السنين كاتجاه عملي في السياسة وبالتالي تسيست “الوطنية” وتوطنت “السياسة” لتتعقد مسألة نشوء السلطة وآليات تغييرها فيما بعد عندما حسم العسكري صراع الثنائيات لصالحه.
هي إذا جملة من عناصر التعقيد التي واكبت نشوء الوعي الوطني وميلاد العقل السياسي بالجزائر، لا تزال خارج جهد التنظير والقراءة التفكيكية الصريحة كي يعاد بناء وعي جديد بمسألة السلطة كأساس للتغيير الذي لن يتأتى إلا بتغيير في الوعي العام بالظروف التاريخية التي انبلج منها مشروع دولة الاستقلال التي أشرنا إليها أعلاه.
وما قد يشرح أو يوضح هذا الأمر الملاحظة التي يمكن استجلاؤها من تجربة التعددية التي أريد لها أن تكون قاطعة مع الميراث السياسي والوطني للجزائر بحيث لا تمتد التيارات الجديدة في تعبيراتها السياسية إلى ماضي الأمة حيث يكمن “رأس خيط” أزمة الحاضر والمستقبل معا، فحتى حزب الشعب منع بداية التسعينيات من الاعتماد بحجة ماضيه غير المشرف في سياق ثورة التحرير الوطني – فما قد يشرح الأمر – هو أن الصوت المعارض الحقيقي لم يكن تلك التيارات الجديدة، حتى وإن حاز فيها الجانب الإسلامي بشقيه المغالب والمشارك على حصة الأسد من القواعد والقوى الشعبية، وسير الشارع السياسي لثلاث سنوات (1989-1992) من حمى الخطابات والمسيرات.
بل إن المعارضة الجادة والتي شكلت دوما قلقا حقيقيا لمنظومة الحكم، هي تلك التي كانت تفرزها تناقضات المنظومة الداخلية بفعل فشل مشروعها القديم وبالتالي فشل مشروع دولة الاستقلال.
معطى يكشف بالضرورة طبيعة القطيعة التي حصلت بين الشعب والسلطة، تم تعبير عنها في أكثر من انتفاضة وأنها كانت تألما من تبعات فشل ذلك المشروع أكثر منها تأملا في مشروع جديد ليس له حضور ولا معالم أو معاول أو رجالات.
من هنا بدت الأصوات القادمة من دهليز المنظومة الحاكمة أكثر رزانة وكياسة ودراية بالسياسة من التيارات التي اشتغلت في السرية لا ترى في ظلمتها إلا نفسها ولا تسمع إلا خطابها وتعتقد إلا بخطها وخطابها في التغيير عبر استلام مقاليد الحكم في البلد سواء عبر الصندوق أو العبور عليها.
فالأصوات التي قدمت من دهليز النظام أظهرت وأبهرت بقدرتها في تدبير الفعل السياسي واخراجه توقيتا وتفعيلا للناس عبر الاعلام والمنابر المؤسسية دونما شعبوية واندفاع “بهيمي” في الشارع.
شخصيات كأحمد طالب الابراهيمي، عبد الحميد براهيمي، قاصدي مرباح عبد الحميد مهري وغيرها، ممن اشتغلت مع المنظومة في تجسيد مشروع دولة الاستقلال، وأقرت بفشله وبلوغ الكثير من حملته مرحلة الفساد والافساد، أظهرت بمواقفها تلك قناعتهم بضرورة التغيير، لكن غير مقتنعة بجدية السلطة في المضي قدما نحو ذلك الاتجاه.
أما المؤسسون الأولون للوعي السياسي وبناة مشروع دولة الاستقلال، ممن حملوا مبكرا لواء المعارضة، كأحمد سحنون، حسين آيت أحمد، وأحمد بودة وسعد دحلب وبن يوسف بن خدة والأخرون ممن عايشوا فترة التعددية الأولى، فكانوا في الحقيقة المؤسسون الحقيقيون للوعي المعارض الجاد العارف غاية المعرفة بطبيعة المنظومة وميكانيكها القيادي الاقتيادي للمجتمع، حاولوا الاشتغال على نطاقين نقيضين أولها ضبط المعارضة المراهقة المندفعة بلا عقل في مواجهة المنظومة الحاكمة المتحكمة بمفاصل المجتمع، وثانيها العمل الميداني على تقديم البديل السياسي سواء من خلال عمل حزبي أو ثقافي قبل أن تحدث الكارثة ويتم الاجهاز على التجربة الديمقراطية الفتية التي كانت ستغدو نموذجا فارقا ومبكرا لمنطقة كامل تعج بالديكتاتوريات بكل أشكالها وصنوفها.
وإذن، نستشف في الأخير بأن سبب فشل كل تجارب التحول والتغيير السياسي في الجزائر هي هذه القطائع في التجربة التي حصلت بين الفاعلين السياسيين عبر كل مراحل النضال الوطني في مقابل استمرار المنظومة على نسقها الخاص لاتصالها الدائم بأساسها المرجعي الأول، خطابا ومؤسسات، أي سلطة الاستقلال التي تلبست ولبست رداء الوطنية الأولى، بوصفها مشترك جزائري عبر عنه كما أسلفنا القول بثورة تحرير كبرى، وكلما دق جرس هذا المشترك في أذن الجزائري، تلاحت في مخيلته وتحركت فيه مشاعر وشعارات “الوحدة” وكلما نظر إلى الأحزاب وتعددها رأى الفرقة والخلافات وهذا ما يفسر الاسترابة الشعبية الدائمة من السياسة التي أفرزها “تسييس الوطنية” الأولى والمستمرة اليوم في الوعي والحكم.