كشف الحراك في الجزائر، من خلال استطالة حالة رهان القوى المفتوح فيه بين الشارع وبقايا النظام القديم، عمق مركزية السلطة في أزمة الهوية وصراع المشروع الوطني الذي لم يخبُ أواره مذ فرضت نموذجها بالقوة عشية الاستقلال، وهيمنتها من لحظتها على التاريخ الوطني، متغذية في ذلك من التناقضات الكبيرة للنخبة وهشاشة هاته الأخيرة في تجربتها التاريخية وضعف قوة الانبثاق من التاريخ، فهي كلها في أطاريحها إما أوهام راجعة لصدى تجربة الغير أو مرتجعة إلى الماضي بدافع من خيبة الحاضر على حد توصيف عالم الاجتماع العراقي علي الوردي للنرجسية الماضوية للإنسان العربي.
وضع بهكذا تعقيد أرخى على المجتمع بظلال قاتمة من الخوف من شبح المجهول الذي صارت تنح إليه تجربة التغيير الثانية الشعبية « السلمية » في الجزائر بعد الأولى، أي تلك التي حرفت عن مساره السياسي باتجاه العنف بقرار عسكري وطُحنت في خضمها روح أزيد من مائتي ألف إنسان، لكن ما هي هاته الجزائر التي نخاف عليها اليوم؟ وما هي تلك الجزائر التي كنا نحياها بالأمس؟ حتى نتمكن من معرفة الجزائر التي نريد أن نحياها غدا؟
في خطاباته المتتالية من داخل الثكنات والموجهة للنخب والشعب، يسعى الحاكم الفعلي الحالي للجزائر، قائد أركان الجيش الوطني الشعبي، إلى إقناع الجميع بأن مطالب الشعب ماضية باتجاه التحقق الكلي، رافضا الذهاب في الاستجابة إلى أعماق الإشكالات التاريخية المطروحة من قبل النخب باعتبارها المصدر الدائم لمعضلة الحكم وحسن استمرار واستقرار الدولة، وذلك حين يختزل تلكم المطالب في استئصال شأفة الفساد، لكونه المتسبب الأول في الأيلولة التي خر إليها مصير البلد، في غض قصدي أو غير قصدي للطرف على بنية السلطة السياسية بوصفها منتج الفساد وزمره وبالتالي يتجلى عمق المطلب الحراك الشعبي بكونه أغور من تلكم الاستجابة الجزئية التي تقدمها السلطة الفعلية.
وعند الحديث عن بنية السلطة القديمة في الجزائر التي أضحت بتهالكها الأيديولوجي والبيولوجي خطرا على جسد المجتمع الجزائرية وسيرورة دولته، تختزل صورة الصراع بين تلكم السلطة والنخب المعارضة لها عبر أجيال متتالية من معارك مشروع الكينونة الوطنية خارج الأنموذج الرسمي، وبالتالي فإن الحوار سيكون أعتى وأعوص من مجرد التداعي لعملية تطهير جزئي لهاته السلطة عبر محاكمة بعض رموز الفساد فيها، بل لمحاكمة تاريخها بكونها نتاج للخطيئة السياسية الأولى التي حصلت عشية الاستقلال صيف 1962.
فالواضح هنا أن ثمة محاولات لاستبعاد مبطن لبطل قصة الحراك الذي هو الشعب بوعيه الشباني والطلابي الجديد، كقوة اقتراح والاكتفاء باستخدامه في حرب استعراض القوى بالشارع من خلال الشعارات المرفوعة كالباديسية (نسبة لابن باديس) والنوفمبرية (نسبة لبيان ثورة أول نوفمبر 1954) في مقابل حمل العلم القبائلي، وفتح أوراش كبرى لمراجعة كل النصوص المؤسسة للهوية والكيان الوطني خارج التأويل الرسمي للتاريخ والمجتمع والمسرود في أدبيات الحركة الوطنية وأطاريحها المتنوعة والمتعددة في هذا الخصوص، كدلالة على تفوق هذا الطرف على ذاك، والواضح أيضا أنه كان لهكذا استراتيجة من الطرفين (السلطة والنخب) أثره في انقسام شارع الحراك إلى ما بين مكتف بسقف الاستجابة ومتشبث بعمق التغيير، الأمر الذي صار ينذر، في حال ما لم تتقارب الرؤى، بعودة حلول الاستقطاب القسري والانقلاب بالتالي إلى مربع جديد من صراع الشرعية بعناوين أخرى، طالما أن الحراك لم يفرض تأسيسه كطرف ثالث في خطاب وواقع الصراع الحاصل بين السلطة ونخب التغيير الجذري، صحيح أنه كلما انزاح المواطن عن هذا الصراع المغلق السلطة/النخبة كلما تحرر من قوة التوجيه وامتلك قوة التغيير وسيطرة على تناقضات التاريخ، وكلما انزاح إلى ذلكم الصراع وانحاز لطرف منه أو انشقاق صعيد رأيه ارتكس إلى وهدة اللا وحدة وضاعت منه سيادته، لكن الانزياح المحايد لا يجب في المحصلة أن يتحول إلى تخل عن سيادة الشعب في فرض التغيير بما يعج به وعائه العام من تنوع في أفكار والإرادات ودونما هيمنة سلطة أيديولوجية تمثلها النخب المعارضة أو أيديولوجية سلطة يمثلها النظام القاتم القائم منذ عشية الاستقلال.
وإذا ما عدنا للمنزع الأيديولوجي سمت النخب الفكرية العربية عموما، من ناحية ومن ناحية أخرى عملة النظم والثورات الرسمية العسكرية العربية، فإننا لنجد أن أيديولوجيا النخب العربية، لفرط تمثلها للمثل التاريخي للغير، مفرطة ليس في معارضتها للسلطة الزمانية بكونها دوما حاجرة على الوعي فحسب، بل ولسلطة الشعب النفسية والثقافية أيضا، بحسبانها حجر عثر في سبيل الاندراج في جديد التاريخ وحداثته، ناظرة (النخب) لنفسها بكونها جديرة باقتياد المجتمع إليه، في حين أن السلطة العربية لا تنتج أيديولوجيا بقدر ما تقتني من سوقها ما يسد حاجتها الآنية في ضرب وحدة غضب الشعب، لذا فهي غير آبهة بالحتم النسقي الفكري الواحد في إعداد مشروعها الوطني، كما تنافح النخب النظرية عنه، بل تجمع كل التناقضات النسقية لتشمل بهيمنتها كل أطياف وشرائح المجتمع، ولهذا لا أحد بوسعه فهم طبيعة الدولة العربية وموضعتها من بين نماذج الدولة الأمة الحديثة وتصنيف سلطتها مثلما سطرته حداثة السياسة في علومها وتطبيقاتها، وهذا ما يبدو اليوم في حراك الجزائر الذي كان مطلبه كما أشرنا رحيل نظام دولة الاستقلال المنتهية صلاحيته، قبل أن يتحول إلى مسرح تجاذب بين عناوين إيديولوجية وجهوية بسبب من مكر السلطة وغباء النخب وعدم تحررها من القيد النظري والانخراط بموضوعية في حقول إنتاج التاريخ بأرض الواقع.
خير من أبرز وبشكل واضح ما تقدم من إشكال صراع التأسيس ورهان قوة فرض الاقتراح الحاصلة بين النخب السياسة الحاكمة والنخب المعارضة، وقوى الحراك في الشارع، هي لجنة الحوار والوساطة، التي يقودها رئيس البرلمان السابق كريم يونس، حيث واجهت ولا تزال، مصاعب عدة في استدراج نخب المعارضة والحراك لحوار، لسبب بسيط وهو اعتبارها حاملة لإطار حوار مسقوف الأفق محدود المدى لا يحقق عمق المطالب الشعبية الرامية لطرح ورقة طريق أوسع بكثير مما تقترحه اللجنة المحسوبة على النظام، يكون من فصولها تفكيك منظومة الحكم القديمة، إزاحة العسكر عن العملية السياسية، الذهاب إلى مجلس تأسيسي يصار عبره إلى بناء الجمهورية الجديدة، وهي الفصول التي وإن اجمع عليها من حيث المبدأ الكثيرون إلا أنهم يختلفون في رزنامة تنفيذها لا سيما ما تعلق بالمجلس التأسيسي الذي يستريب الكل من فكرته مخافة أن يتحول إلى مصدر خلاق وشقاق سياسي ومجتمعي كبير والسبب مثلما أوضحنا في سياق المقال الاحتراب التاريخي الذي حصل بسبب حكم الأمر الواقع الذي مارسته دولة الاستقلال ونظامها الأحادي على مدى خمسة عقود، فوقية النخب الفكرية والسياسية المعرضة للدولة ولقيم الشعب، ودخول الشعب عبر حراكه التاريخي الكبير كمؤشر لوعي سياسي قاعدي غير مسبوق كطرف في الصراع التاريخي على دفة القيادة والسيدة للدولة والمجتمع، من هنا تؤشر المعطيات على فشل قريب للجنة الحوار تلك وبقاء الوضع القائم على حاله ما لم يتمكن طرف من الثلاث من ترجيح كفته مع الدخول الاجتماعي بداية من الشهر القادم.
بشير عمري
كاتب صحفي جزائري