عبرت الثورة السلمية الفصول وبدت في جمعتها الثامنة والعشرين أكثر وضوحا في الأهداف، وأصلب عزما على بلوغها.. الشعارات ثابتة وموجهة بصفة مباشرة إلى رئيس الأركان بصفته متحدثا باسم السلطة الفعلية، ومضمون الرسالة أن لا تراجع عن تغيير النظام منتهي الصلاحية وإرساء أسس الجزائر الجديدة، وفي إصرار على إنهاء تدخل الجيش في السياسة والحكم من وراء حجاب جاءت الشعارات محملة بمعاني التحدي، حتى أن زخم الجمعة الأولى من الشهر السابع للثورة السلمية بدا كرد مباشر على وعيد قائد الجيش.
التصميم على رفض الانتخابات بالشروط الحالية واضح لا تخطئه عين ملاحظ، والتمسك بانتقال حقيقي نحو الديمقراطية يأتي كإعلان صريح بإبطال محاولات شيطنة فكرة مرحلة انتقالية، وبذكاء ربط المتظاهرون المرحلة الانتقالية بالسيادة الشعبية في شعار يسقط التضليل الذي يمارسه الخطاب الرسمي، وتتكفل بتسويقه الأبواق المرتبطة بالسلطة، والتي تحتكر وسائل العمومية ومعظم وسائل الإعلام الخاصة.
نحن هنا وسنقاوم كل محاولة مرور بالقوة، تماما مثلما فعل المتظاهرون في باتنة عندما أصروا على إطلاق سراح رفاق لهم اعتقلوا بسبب رفع الراية الأمازيغية، وأحبطوا محاولة اختطاف متظاهر من طرف أحد عناصر الأمن، وبسلمية مبهرة يواصل الجزائريون تحييد ورقة العنف، وتتفيه كل أساليب التضييق التي تحاول من خلالها السلطة إنهاء الثورة السلمية لتتمكن من إجراء الانتخابات في « أقرب الآجال » كما تقول السلطة التي تستعجل إعادة تشكيل الواجهة المدنية للحكم، ولكل خطاب رد يناسبه « ما كانش الانتخابات يا العصابات » ومع الشعار هجوم على من يستعجلون الذهاب إلى هذه الانتخابات من قادة الأحزاب والطامعين في الوصول إلى الحكم عبر مناورة من وراء ظهر الجزائريين.
تعود أعداد المشاركين في المظاهرات إلى مستوياتها المعهودة، وتصدح الحناجر « الحراك راهو لاباس » متوجهة إلى أرباب الدعاية عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من أصحاب مقولة « الحراك انتهى »، ومع الدخول الاجتماعي تتضاءل حظوظ السلطة في تنظيم انتخابات في المواعيد التي تريدها، وبالطريقة التي تريد أن تفرضها على الجميع، وليس هذا فحسب، فالمتظاهرون اليوم يبدون أكثر انسجاما رغم كل التنوع الايديولوجي الذي يزخر به الشارع، فعلى وحدة الهدف يرتكز انسجامهم بعد أن صقلت الجمعات المتتالية وعيهم السياسي وجعلتهم يركزون على هدف التغيير أولا، وبهذا تم إبطال كل مناورات السلطة ودعايتها والتي لم يكن لها من هدف غير بث التفرقة بين الجزائريين للانقضاض على ثورتهم السلمية التي تمثل فرصة تاريخية لبناء الجزائر الجديدة.
في الجمعة الثامنة والعشرين عاد ملف آلاف المفقودين المغيبين قسرا ليظهر حقيقة هذا النظام الذي لم يتغير بتغيير الأشخاص، فالظلم الذي لحق بآلاف العائلات التي لا تعرف مصير أبنائها إلى اليوم يبقى شاهدا على فساد نظام كان يسقط الحق في الحياة عن كل من يعارضه، ومثلما اعتبر طغاة الأمس أن قتل بضعة ملايين الجزائريين جائز من أجل الحفاظ على النظام، نحن نسمع اليوم عبارة « الجزائر ليست بحاجة لمثل هؤلاء البشر » عبارة مروعة تعكس نزعة التطهير بغرض الإقصاء وفرض النمط الواحد في التفكير، لكن المعنيين بهذه العبارة المشينة ليسوا قلة كما تعتقد السلطة التي لا تسمع ولا ترى، بل هم هؤلاء الذين يصرون على الخروج كل جمعة من أجل إنهاء حكم بني على الإقصاء والإلغاء، وقام على الاستخفاف بإنسانية الإنسان، وازدراء حرمة النفس البشرية.
جزائر الثورة السلمية قادمة ولن يوقف مسيرتها وعيد أو تضليل، إنها قادمة تبشر بالإنسان والحق والعدل.
الثورة السلمية.. خريف النظام ربيع الجزائر
9