عمر بن درة
https://al-akhbar.com
الجمعة 4 تشرين الأول 2019
خلال تظاهرة يوم الجمعة الماضي في العاصمة الجزائرية (رياض كرامدي – أ ف ب)يملأ الجزائريون والجزائريات، منذ ما يزيد عن ثمانية أشهر، الساحات العامة كلّ جمعة للمطالبة بتغييرات ديموقراطية في النظام السلطوي الذي يحكمهم عملياً منذ نيلهم الاستقلال في تموز/يوليو 1962. فالمجتمع الجزائري، بأطيافه المختلفة وبغالبية مكوّناته، يطالب بإرساء دولة القانون وباحترام الحريات الأساسية.
يعبّر ملايين المتظاهرين، بوعي وإدراك تامّ لمسؤوليتهم السياسية، عن التزامهم بالمضي قدماً في مسيرة بلادهم التاريخية وبالدفاع عن مصالحها العليا. فصور شهداء ثورة التحرير ضدّ الاستعمار، التي امتدّت من عام 1954 حتى عام 1962، تزيّن الشوارع خلال هذه التظاهرات، بخلاف ما يتصوّره عدد من المراقبين المقتنعين بأنّ فقدان الذاكرة على الصعيد الرسمي قد أصاب أيضاً المجتمع ككلّ.
لا شكّ في أنّ الحراك، الذي أطلق شرارته الشباب الجزائري في 22 شباط/فبراير 2019، واضح في انتمائه إلى النهج التحرّري الذي وُلد من رحم ثورة الأوّل من تشرين الثاني/نوفمبر 1954. ففي حين استُعيدت السيادة الوطنية منذ سبعة وخمسين عاماً، ما زالت المواطنة الحقّة هدفاً يصبو إليه الجزائريون.
من التحرير الوطني إلى التحرّر المواطني
يكمن السبّب الأساسي الذي أدّى إلى اندلاع هذه الموجة الفجائية من الاحتجاجات الشعبية السلمية، التي عمّت أنحاء البلاد، في إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي يتولى الحكم منذ عام 1999، في ترشّحه لولاية رئاسية خامسة في شباط/فبراير الماضي. إلا أنّ هذا الترشح المنافي لأيّ منطق لرجل أعياه المرض، إلى حدّ أنه بات عاجزاً عن التحدّث في العلن منذ أكثر من ستّ سنوات، اعتبرته فئات واسعة من الشعب بمثابة إهانة وازدراء مرفوضَيْن لها، أو القشة المسمومة التي قصمت ظهر البعير وأدّت إلى تعبير هذه الفئات الشعبية عن استيائها العارم.
شكّل هذا الإعلان المستفزّ الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات الشعبية، عبر توفير مناخ من القلق السياسي والاستياء الاجتماعي المشتّت، ولكن الذي بدأت ملامحه تظهر بوضوح. في الواقع، منذ انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية في عام 2014، دخلت الجزائر مرحلة السنين العجاف والصعوبات الاقتصادية التي تدفع ثمنها الفئات الأكثر ضعفاً. فالتراجع الملحوظ في الاستثمار العام في قطاع البنى التحتية ووقف المشاريع، بالإضافة إلى تأخّر الدولة في سداد مستحقّات الشركات المتعاقدة معها، كلها زادت معدّل البطالة الهيكلية إلى حدود لم تعد تُحتمَل، خصوصاً أنّ أكثر من يعاني من هذه البطالة هم الشباب، الذين يجدون كلّ الآفاق مسدودة في وجههم.
ما زالت ذكرى التسعينات المريرة، ذكرى «الحرب القذرة» والأزمة الاقتصادية والخشية من الغد المظلم وجرائم النهب المكشوف والفاضح لموارد البلاد، ترخي بظلالها على الواقع الذي يعيشه الجزائريون اليوم. لا بل ما يزيد هذا الواقع سوءاً هو أنّ البلاد شهدت بين عامَي 2003 و2013 فترة طويلة من ارتفاع أسعار النفط، بلغ خلالها سوء الإدارة والفساد مستويات غير مسبوقة. خلال هذه الفترة، راكمت البلاد أكثر من 800 مليار دولار (أو 1000 مليار بحسب بعض التقديرات) من العوائد، ما أتاح معدلات طائلة من الإنفاق العام واختلاساً لا يوصَف للمال العام، في بلد تاريخه الاقتصادي مليء بأمثلة عن النهب الممنهج والهيمنة غير المشروعة على الموارد العامّة.
وإذ تمّ تفويت فرصة الانطلاقة الاقتصادية تلك، أدّت الطفرة المالية خلال العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين إلى ترسيخ الطابع الريعي لاقتصاد قليل الإنتاجية أساساً، ولا يخلق سوى القليل من فرص العمل ويقوّضه القطاع غير الرسمي ويعتمد على الاستيراد لسدّ القسم الأكبر من احتياجات البلاد. لا بل سمح الفساد الممنهج بإدامة سوء الإدارة والإهمال إلى حدّ زعزعة أُسس الدولة نفسها. إلا أنّ العوائد النفطية، التي لطالما استُخدِمت كمخدّر للمجتمع، انحسرت بسرعة قياسية، كما أنّ احتياطي العملات الأجنبية، الذي ناهز مئتي مليار دولار في عام 2014، تقلّص بسرعة وبمعدلات يصعب تعويضها. فبات هذا الاحتياطي يبلغ أقلّ من سبعين مليار دولار، ومن المتوقّع أن ينخفض إلى حدّ أدنى غير مسبوق في العامَيْن المقبلَيْن. ونظراً إلى أنّ أسعار النفط لن تشهد ارتفاعاً ملحوظاً إلا في حال نشوب نزاع كبير، لا بدّ من التساؤل عن كيفية تأمين الواردات الحيوية لتلبية الاستهلاك الداخلي. لا أحد ينكر هذه الاحتمالات غير المستبعدة إطلاقاً، كما أنّ الجميع يخشى المستقبل وما يحمله من ظروف عصيبة.
مسيرة الشعب ومسيرة السلطة
يتمّ التعبير عن السخط تجاه فجور المنظومة الحاكمة وانعدام كفاءتها ورداءتها، وعن القلق الاجتماعي – الاقتصادي والمطالب السياسية لغالبية النسيج الاجتماعي، خارج أيّ إطار مؤسّسي أو سياسي أو إعلامي. فبعد القضاء على المعارضة السياسية والأصوات المستقلّة أو قمعها أو نفيها من قبل الشرطة السياسية، لم يعد أمام الشعب أيّ منبر مؤسسي للتعبير عن مطالبه. كذلك، تُمنَع النخب الحقيقية من التعبير عن آرائها في ظلّ نظام يعتمد سياسة التعتيم التامّ. فليست المعارضة سوى واجهة فارغة عبارة عن أجهزة وسيطة مرتشية وفاقدة للشرعية. لا شكّ في أنّ الاستياء الشعبي يتزايد منذ سنوات طويلة، وحتى في حال تمكّنت مجموعات مصالح معيّنة أُزيحت من السلطة من حثّ الفئات الشعبية أو تشجيعها على الاحتجاج، يبقى حراك المجتمع، السلمي والمنضبط، عفوياً. أما الدعاية الرسمية المذعورة فلم تحقّق الأثر المرجو منها: فما من غرفة عمليات أو «أيادٍ خارجية» مسؤولة عن هذه الهبّة الجماهيرية.
1 comment
إرساء دولة القانون شرط لتحقيق السيادة في الجزائر
في نفس الوقت
يهدد كيان التجبر و التسلط حكم العسكر
و ذلك
هو الصراع السلمي الذي يجب أن يقوم و يستمر حتى تحقيق النصر بين سلطة الحكم العسكري و الحكم السياسي
و إسترجاع سلطة الحكم إلى الحكم السياسي