الجزائر الجديدة 122
سيكون الصحفيون والصحفيات على موعد مع التاريخ وفاء لتضحيات أجيال من المهنيين الذين دافعوا عن المهنة وعن سيادة الجزائر وحرية الأمة، عندما يفهمون أن حرياتهم وكرامتهم مرتبطة بحريات وكرامة كل الجزائريين والجزائريات..
يمكن القول إن تاريخ 28 أكتوبر 1962 الذي استرجعت فيه السيادة الوطنية على مقر مؤسستي الإذاعة والتلفزيون، هو تاريخ يلخص جيدا علاقة حرية المجتمع واستقلاله بحرية الصحفيين والصحفيات في ممارسة المهنة خارج الدعاية الفرنسية.
لقد كانت الدعاية الاستعمارية رهيبة ضد الأمة الجزائرية، بالنص والصوت والصورة، لكن إرادة الأمة في التحرر والاستقلال جرفت تلك الدعاية وعرتها، لأن أجهزة البروباغندا الفرنسية رغم قوة أدواتها وتجهيزاتها ووسائلها البشرية، كانت فاقدة لأهم شيء لإيصال رسالتها وهي « المصداقية »، التي فقدتها بسبب الهوة بين الخطاب الإعلامي المشوه لثورة الشعب ونخب الثورة، والمضخم لخطابات النخب السياسية والعسكرية الفرنسية، والواقع كان يفضح يوميا عنصرية المنظومة السياسية الفرنسية ضد الأمة الجزائرية.
28 أكتوبر 62 كان يوما لاستعادة السيادة الجزائرية على مؤسستي الإذاعة والتلفزة وتغيير اسم الشارع الذي يحتضن البناية من المرجعية الفرنسية إلى « شارع الشهداء »، تخليدا للشهداء ال 21 الذين سقطوا في هذا الشارع ولشهداء الثورة بوجه عام.
السيادة الوطنية على البناية استرجعت، لكن منظومة الدعاية بقيت وتم تحويل الصورة والصوت نحو دعاية أخرى، خدمة لتوجهات النخب التي استولت على السلطة وانقلبت على الحكومة المؤقتة.. دعاية ترجمت جنون الأشخاص ونرجسيتهم التي لا تعترف بالآخر ولا بعبقرية الأمة ولا بحق الاختلاف، فتم استخدام الإذاعة والتلفزيون للدعاية لشخص بن بلة، قبل أن يستخدم لتشويهيه وتخوينه، وقبل أن تمنع صوره من التلفزيون لتترك مكانها للقائد الأوحد بومدين، وهو المنطق نفسه الذي ساد في بداية عهد الشاذلي، قبل أن تفرض أحداث أكتوبر 88 انفتاحا جعل التلفزيون العمومي موضع مشاهدة قياسية حتى في تونس والمغرب، وهو ما لم يدم طويلا لتعود الإذاعة والتلفزيون إلى عهد الدعاية البدائية بعد جانفي 92 في حملات تخوين وكراهية ضد كل المعارضين لسياسات السلطة وقراراتها الانتخارية، التي أنتجت القتل والتعذيب والاختطاف والدمار… وهو ما زاد في العشرين سنة من حكم بوتفليقة، حيث تحولت النشرات الإخبارية في الإذاعة والتلفزيون إلى نشرات تمجد وتسبح وتقدس شخص بوتفليقة، الذي تحول انتقاده مع مرور الوقت إلى أحد نواقض الإيمان والانتماء الجزائري.
هذا الجنون يستمر إلى اليوم، في حملات دعاية جعلت التلفزيون العمومي يدخل كلمة « الزواف » العنصرية كآلية من آليات التجنيد لاقتراع 12 ديسمبر ولتخوين من يتحفظ أو ينتقد هذا المسار، كما أن التاريخ سيكتب أن التلفزيون استخدم لتخوين كبار المجاهدين والعديد من رموز التاريخ منذ التسعينيات وإلى اليوم.
نتيجة هذه الدعاية البدائية، حدثت هجرة جماعية للمتابع الجزائري وقطيعة مع إذاعات وتلفزيونات لا يستمع إليها ولا يشاهدها أحد، فأصبح الرأي العام في الجزائر تصنعه مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الأجنبية، بسبب انعدام المصداقية في الإعلام الجزائري.
هذا الواقع كافٍ للحديث عن سيادة الدعاية المتخلفة التي تنشر الكراهية والتضليل وتشتم ذكاء الجزائريين والجزائريات، وهو أمر كافٍ أيضا للقول بأن سيادة الدعاية تؤدي حتما لفقدان السيادة الحقيقية.. لأن السيادة لا يمكن اختصارها في راية تُرفع، وعملة تصرف واقتراع يفرض.. السيادة هي « سيادة الشعب » السيد الذي يبني الدولة ويدافع عنها ويواجه الدعاية الأجنبية بالمجتمع المفتوح الذي يعترف بالاختلاف والتنوع ويحارب الإقصاء ويجرم الكراهية، فهل من آذان تنصت وأعين تبصر وعقول تتبصر قبل فوات الأوان! حتى تولد الجزائر الجديدة السيدة التي تضمن الإنصات لكل الأصوات الجزائرية.
الجزائر في 28 أكتوبر 2019
تصوير وتحرير رضوان بوجمعة