08/11/2019
https://alsiasi.com/
لا يكاد التحليل السياسي الأكاديمي كما الانطباعي لظاهرة الحراك الثوري للشعب الجزائر الحاصل والمتواصل منذ 22 فبراير الماضي ينفتح على مستويات أكبر تنفذ إلى جينات النظام وشجرته الوراثية من خلال وضع جسد هذا النظام على طاولة التشريح الدقيق بما يتيح في الأخير للجميع معرفة بنيته وسائل اشتغاله، تجدده وتطوره، ويخبر الكل عن سر قدرته في البقاء جاثما على صدور الجزائريين كل هاته العقود الستة التي أعقبت استقلال انتزعه الشعب بكل أطيافه وأحزابه وأفكاره قبل أن يصادر بإرادة جماعة غامرت بالتاريخ وبمصير الأمة من أجل غنيمة حرب كانت هي الوطن بكل مقدراته.
ومسعى شباب الحراك اليوم سواء أوعى بذلك كثيره أم لم يعه، هو الانتهاء من هذا الشكل من الحكم الذي ينصرم عن الرقابة، عن المسئولية، عن التحديد وبالتالي عن التجديد، هذا هو المطلب في عمق محتواه وفي منطلقه ومنتهاه.
كيف انشطر النظام إلى واجهتين أحدهما ظاهرة صورية وأخرى باطنة فعلية؟ كيف عجز العقل الوطني عن إنتاج أدوات نقدية للتاريخ الوطني تكشف سر نشأة النظام بالشاكلة التي استمرت معه إلى اليوم؟ وما الذي حال دون نجاح التعددية السياسية على وضع حد لهذه الممارسة الازدواجية لسلطة هذا النظام؟
بومدين وأسلوب الناصرية في التحييد
واضح أن صراع السياسي والعسكري الذي احتدم قبيل الاستقلال كان ينبئ بانحراف كبير عن الخط الثوري الذي رسمه المتداعون لوحدة القضية من خلال بيان أول نوفمبر، وأن روح الغنيمة صارت تتغلب على روح الكفاح ومبدأ التضحية، والقوة كوسيلة للحسم فوق الشرعيات والشرائع لم يعد عنها من مهرب، في إستراتيجية جماعة وجدة الانقلابية التي بدت متأثرة بالتخطيط الانقلابي داخل الدائرة الثورية الضيقة التي أنتجتها الناصرية في خمسينيات القرن الماضي بمصر، حين استعمل من يُسمون بالضباط الأحرار، محمد نجيب في انقلابهم على الملكية قبل أن يطيحوا به سنة 1954 ويوضع على هامش التاريخ الوطني لمصر، وهو التخطيط النموذجي الناصري ذاته، الذي استعاره البعث نهاية سبعينيات وبداية ثمانينات القرن الفائت يوم أزاح صدام حسن البكر واستولى على قيادة الحزب والدولة، كان بوميدن وجماعته قد سلكوا ذات الدرب بجلبهم لبن بلة وعزله عن القيادة التاريخية للثورة التحريرية وجعله على رأس البلاد، قبل أن تتم الإطاحة به سنة 1965 في انقلاب 19 جوان من قبل تلكم الجامعة (السلطة الفعلية).
من هنا يتضح أن السلطة الفعلية هي تلك الجماعة التي صادرت القرار السيادي للأمة وكل ما يعمل على صنع هذا القرار من أدوات مادية ورمزية، مشكلة بذلك هوية خاصة في مواجهة سؤال الهوية المطروح في البلد، رؤية ثابتة للتاريخ الوطني في مقابل الرؤى المتجادلة والمتساجلة في مسرح النقاش الفكري والتاريخي، مستمسكة بالدولة من غير إفلات باعتبارها غنيمة، أمام حقيقة أن دولة ملك للشعب ومحل سيادته، واضعة يدها عن الثروة لتضمن ديمومتها، على حساب ضمان نمو البلاد وتطورها.
بومدين شخصَن الدولة
ورب معترض يعترض بالملاحظة بأن بومدين كان سلطة فعلية وظاهرة فكيف يمكن الحديث عن استمرار هذا الأسلوب في الحكم مذ استقلت البلاد؟
ملاحظة سليمة من حيث منطق الوصف، لكن من حيث الحقيقة التاريخية، فإن كل ما فعله بومدين هو الخروج بـ”الفعلية” من السر إلى العلن، والحكم مباشرة بذات المخطط الذي أطاح بالشرعية، صادر الاستقلال، صاغ بانفراد الهوية وضع يده على الثورة لخدمة النظام أكثر من خدمته للبلد.
فبومدين شكل الاستثناء في الفصل بين السلوك الفعلي عن الأسلوب السري في شاكلة عمل النظام الانقلابي الذي استولى على البلاد سنة 1962، وما مكنه من ذلك هو كونه قائد ذلك التمرد على الشرعية وبالتالي هو مؤسس النظام اللا شرعي في الجزائر وهذا بصرف النظر عن وطنية الرجل من عدمها مثلما يحاول المنافحون عنه الاعتراض به في كل مرة تثار مثالب وخطايا الرجل التاريخية.
الشاذلي وعودة الازدواجية
بعد وفاة بومدين في عمر الزهور بالنسبة للقائد السياسي، وانكدار نجم الكاريزما في ظلمة السرايا، عادت لعبة الجماعات والتكتلات إلى طحنها الضاري الأول، صراعات محمومة بعيدا عن الإعلام الأحادي المكتوم المكبوت، فعاد النظام إلى لعبة الازدواجية “السلطة الفعلية” و”الواجهة الصورية”، مثلها الشاذلي بن جديد وعانى منها بعد جفاف ينابيع الريع وتصاعد غضب الشباب، وحاول تفكيك هذه المعادلة من خلال الزج برقم صعب وهو الشعب كطرف حاسم في الصراع فكانت أحداث أكتوبر 1988 التي وضعت بتداعياتها حدا للأحادية كعنوان جمهوري للبد لكنها أخفقت والانتهاء منها بصفتها عش النظام برأسيه الفعلي المتخفي والصوري الظاهر، فمع دنو الإسلاميين من الحكم تدخل النظام سن 1992 بالقوة التي تدخل بها لمنع الشرعية سنة 1962 وأعاد فرض شاكلته الأولى الازدواجية القيادية (ظاهر/باطن) باستعمال تعددية صورية خاضعة لإرادة وتوجهات النظام الانقلابي المتجدد.
تمرد بوضياف
ومن سخرية القدر وغاربة تلقب التاريخ في الجزائر أن تتساقط عقول الثورة وقادتها أمام إغراءات هذا النظام ، فبعد أن تم إغراء عديد الوجوه البارزة في الثورة التحريرية وجرهم إلى لعبة الانقلاب على الشرعية مثل ما سقناه عن بن بلة وكذلك فرحات عباس، هذا الأخير الذي انضم إلى جماعة وجدة مقدرا بأنها تملك وسيلة الحسم وتجنيب البلاد الفوضى قبل أن يصدم بنية تلك الجماعة في السيطرة الأبدية على الدولة، بذات المنطق استجاب بوضياف لسحر النظام، قائلا بأنه رام تخليص الجزائريين من فوضى اللا شرعية، وحين وقف على حقائق صادمة ونوايا غير سليمة شرع يضع نفسه في مسافة عمن جلبوه لكنه بدا متأخرا في الاستيعاب وضع حدا لذكائه وحياته.
بوضياف صدَّق ما وُعد به من أنه سيمتع بالضوء الأخضر الذي سيمكنه من قيادة البلاد وفق رؤيته الثورية القديمة، لكنه راح في ذلك إلى أبعد الحدود حين أراد التجوال بحرية داخل دهاليز النظام السرية، لإعادة ترتيبه بعد تفكيك بناه والقطع مع أسلوبية اشتغاله القائمة على الثنائية الفعلية المتخفية والصورية الظاهرة، فلقي ما لقيه منسبقوه.
بين صراحة زروال وخبث بوتفليقة
لم يتمكن بعد بوضياف، الرئيس زروال من مواجهة إرادة الهيمنة التي كانت تمارها سلطة الخفاء وعلى سلطته الظاهرة فاستقال، وهنا كان خطأ دهاقنة النظام في جلب واحد من بناة النظام القديم في الجزائر، ونعني به عبد العزيز بوتفليقة، الذي وبالإضافة لدرايته الدقيقة بكيفية اشتغال النظام وآلياته، تمتع باعتراف وتزكية وفرض حتى، من قوى الخارج، وهو ما جعله يدخل مبكرا في صراع مع بنية النظام الصلبة (استخبارات/قيادة أركان) مستعصما ومستقويا بدعم الخارج وشعبية جارفة في الداخل من قطاعات واسعة من الشعب كانت ترى فيه جزء من فترة الدولة الذهبية في سنوات السبعينات وتشتم فيه عطر بوميدن الخالد في الحاسة البسيطة لشعب المقهور، فوظف بدهاء هذين الدعامتين واستطاع تقويض معالم السلطة الفعلية المتخفية، لكن مع مرضه تهاوى نظامه تهاوي النجم في الفضاء على نفسه وصار قطبا أسودا مخفيا أي عادت الازدواجية لتطفو مجددا على السطح وهي ما سماها قائد الأركان بالعصابة، تنصب شخصيات مدنية وتكنوقراطية تدين لها بالولاء وبالاوليغارشية التي أسسها نظام بوتفليقة وتتلقى من تلك العصابة الوجيهات والتعليمات.
هل هي المعركة الأخير؟
واليوم يؤشر سلوك السلطة الفعلية المتمثلة في قيادة الأركان على المضي في ذات الأسلوب باعتباره، فيما يتضح من خطابات قائد الجيش، الأسلوب الأوحد والأمثل للجزائر كي لا تسقط في الفوضى التي قد يتسبب لها التنوع والتعدد التصارعيين اللذين كانا سببا في ارتكاس التعددية.
معنى هذا أن حركة تحرير الوعي السياسي للشعب الجزائري باتت مطالبها مرفوضة بشكل مبطن وأن الوصايا عليها ستظل قائمة وستستبدل تلك المطلبية بعطاء جديد وهو برنامج مكافحة الفساد، الذي به كانت الخطب تبرر التماطل في الانتقال السياسي، بالقول الدائم أن مطالب الحراك قد تحققت وأن المفسدين سينالون جزاءهم، لكن دون المس بآلية إنتاج الفساد التي ستظل هي هي، المسألة التي يرفضها الحراك بـ”جُمُعاته” الشعبية وبـ”ثُلاثَاءاته” الطلابية وعبروا عتها بعدم تقديم مرشح حامل لمطالب وروح الحراك، ما افرغ عملية الانتخاب قبل آوانها من كل محتواها، فعادت الوجوه التي ثار الحراك في وجهها باعتبارها جزء من منظومة الحكم بشقيها المتخفي الفعلي والظاهر الصوري لتترشح بلا حياء ولا منطق لقيادة شعب ثائر ضدها وضد مشروع من يدير خيوطها من الخلف، لا منطق يمضي به ما تبقى من النظام القديم وعيا جديدا بالدولة وبالسياسة ولا أحد يتوقع منها هذا الحوار الجيلي الأخير.
بشير عمري
كاتب سياسي جزائري