عود على بدء، هذا أول مؤشر أعطاه الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون من خلال قراره بالشروع في تعديل دستور سابقه عبد العزيزي بوتفليقة الذي صاغه سنة 2016، عوض أن يبادر إلى فتح حوار حقيقي مع حركة الشعب الثورية المستمرة منذ قرابة سنة مطالبة بالتغيير الثوري الجذري وليس المظهري الدستوري، وبهذا يكون الرئيس الجديد قد كشف عن حقيقة المسار غير الثوري الذي انتهجته دولة (القايد صالح) من أجل تفويت على الشعب موعد آخر مع التاريخ ليتنقل فيه من الأبوية الثورية التي تلبست بشرعية التاريخ والاتكاء على عصا الدستور، وهو ذات المسار الذي مضت عليه كل تجارب النظام منذ الاستقلال إلى اليوم، خصوصا بعد كل الانتفاضات الشعبية المتتالية التي تطالب في عموم غاياتها وأهدافها بنهاية الوصاية على الوعي، والتاريخ والثورة، وتحول إلى دولة مؤسساتية بالمعنى العملي والفلسفي للكلمة.
فالدساتير في منطقتنا العربية لها بالإضافة إلى الوظيفة الديكورية المظهرية للدولة، مهمة أخرى مستترة في الظاهر وهي أنها تعمل بشكل مستمر على عرقلة إرادة الشعوب في الانتقال من وضع تاريخي إلى وضع آخر يستجيب لخصوصية التطور الحاصل داخليا وخارجيا وشاكلة تفاعل الشعب مع ذلك التطور، وهذا ما يفسر بقاء الشعوب العربية بلا مقدرة على أن تجد لها موطئ قدم في سبيل الانتقال الديمقراطي لأنه أعجز ما تكون عن امتلاك إرادتها في ممارسة سيادتها على نفسها وأول ما قد تمارسه هاته الشعوب هو التخلص من وصايا النخب العسكرية التي حكمته ولا تزال بأشكال تتنوع وتتطور داخل القلب القديم وهو احتكار الإرادة الشعبية وعدم ترك الشعوب تتطلع إلى الديمقراطية الحقيقية التي تتجاوز الحد المرسوم في ما يعرف بالمشاركة السياسية، من انتساب حزبي متعدد وانتخاب حقيقي غير موجه أو مزور.
وطالما أننا خترنا التجربة الجزائرية كنموذج للدستورية التي تؤسسها فوقيا وترغم النظم العربية شعوبها على الخضوع إليها وليس العكس، فسنحاول هنا استكشاف أسباب لجوء النظام الجزائري إلى هذه العملية معزل عن إرادة الشعب بحجة أن هذا الأخير لا يمتلك وعيا دستوريا يتيح له المقدرة على بناء دستوره وفق جمعية تأسيسية حقيقية.
فالثابت في تجربة النظام الجزائري أن طبيعته تقرن مصير استمراره كحالة غير شعبية وغير شرعية مذ تحررت البلاد بوجوب إبقاء يده على مصادر الشرعية غير الشعبية وغير التاريخية على وسائل الدولة المعنوية (الرمزيات، الرسميات والقانون) والوسائل المادي (الإدارة والقوة والمال).
من هنا يعمل عقب كل ثورة شعبية تندلع بسبب خلل في إدارة توازناته الداخلية وانهيار مشروعه على سحب النسخة القديمة من دستوره ويستبدلها بأخرى جديدة لا تحمل معالم تطور المجتمع بل معالم تطور صراعه هو مع المجتمع ومستقبل صراعاته الداخلية.
وبناء على هاته الصورة القاتمة من المجاز الدستورية الفوقية المفروضة على الشعوب العربية، والتي ليس من ورائها قصدا أوضح من الحيلولة دون أن تتدستر ثورات الشعوب على نظمها العسكرية والقبلية العميلة للخارج وبالتالي لتنقل المجتمعات العربية من منطق الوصاية الفوقية التي تكرسها مؤسسات القوة بكل أجهزتها وتكرسها مساهمات وتواطوءات نخب فرية وأكاديمية تستدعى في كل مرة إلى قصور الفساد والاستبداد لتصميم لوحة دستورية تُأزِّل النظم وتؤله قائدها مثلما حصل مع بوتفليقة في دستور 2016 أين أعطته اللجنة التي أسسها لتتكفل بمهمة صياغة القانون الأساسي للبلد فمنحته صلاحيات تجازوت ما روته سينما العلمية التاريخ السياسي عن الامبراطوريات القروسطية الأولى ! – بناء على ذلك – صار يلزم الثورة الشعبية في الفكر والممارسة العربيين أن تغير من استراتيجيها المطلبية والتحول من النقر على قشرة القوقعة الهشة التي تُهزم إرادتها سحريا وعسكريا، أي بخطاب مشاعر الثورة ومدافع العسكر إلى عمق القوقعة حيث يرقد السر بلا سحر، وهذا بالمطالبة بتجفيف ينابيع الاستبداد والفساد وأدوات إعادة تخليقهما وتخليق نظمهما.
إذن لم يعد مسموحا بالمرة أن تترك الثورة الشعبية لعبث النخب العسكرية، السياسية ومن تواطأ معها من النخب المثقفة من مختلف المشارب، وحتى تتمكن الشعوب من تحقيق هكذا غاية عليها أن تتحرر من خطابات تلكم النخب المرجعية الإيديولوجية والثقافية والتمحور على مسألة حق الشعب في إدارة شئونه وفق طموحاته ومبلغه من الوعي الحضاري والسياسي، لأن أي خطاب ثوري شعبي يخرج عن هذا الإطار العام ويحمل رمزا إثنيا أو ثقافيا أو فكريا خاصا سيفتح من خلاله فجوة للنظام كي يدخل منه ويعيد بسط هيمنته على إرادة الشعب بحجة درء الفتنة وضمان الوحدة الوطنية فيلقى تجاوبا من بعض المستفيدين من النخب والشعب معا.