السلطة تريد أن يكف الجزائريون عن التظاهر، هذه خلاصة تصريحات عبد العزيز جراد وكمال بلجود اليوم، يقول الأول « سيكون من الأكثر حكمة تخفيف النزعة المطلبية والاحتلال المبالغ فيه للطريق العام الذي لا يزيد سوى في تأزيم الوضع الحالي دون تقديم حلول ملموسة لمختلف المشاكل التي يواجهها المواطنون والمواطنات »، والمقصود هنا هو كل أنواع التظاهر والاحتجاج سواء كانت تلك المرتبطة بالثورة السلمية المستمرة منذ أزيد من سنة، أو تلك الاحتجاجات الفئوية ذات الطابع الاجتماعي، أما المرجو من وقف المظاهرات والاحتجاجات فهو أن « الحكمة والتفهم وتجند القوى الحية للأمة تمثل السبيل الوحيد الذي يتيح حلا هادئا من أجل ضمان خروج من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية لم يسبق لها مثيل ».
الأمر متعلق بإدارة وضع صعب لا يمكن تسييره إلا إذا التزم الجزائريون الصمت التام على كيفية إدارة الشأن العام وخيارات السلطة القائمة، وهذا هو الوضع الذي تعود عليه حكام البلد منذ الاستقلال، هم يضعون السياسات وينفذونها والمجتمع يزكي بالتصفيق والتصويت وفي أضعف الإيمان بالصمت المطبق، لكن ما الذي يجعل جراد يطلب من الجزائريين الاختفاء من المشهد وتسليم البلاد لحكومة أثبتت أنها استمرار للنظام الذي وضع البلاد على حافة الهاوية ؟ الضمانة التي يقدمها هي تعهد تبون « بإرساء مسار بناء جمهورية جديدة بقاعدة دستورية تكرس شفافية الانتخابات وديموقراطية تشاركية حقيقية ومجتمع مدني قوي وطبقة سياسية ممثلة وصحافة حرة ومسؤولة »، ففي ملة السلطة واعتقادها يمثل كلام تبون ضمانة كافية لينصرف كل جزائري إلى شأنه ويترك أمر تسيير البلد للسلطة التي تحتكر الحكمة، وعليه أن ينسى كل التجارب السابقة، وأن يغض الطرف عن الوعود غير المنجزة، وعن الضمانات التي قدمها أسلاف تبون ممن تولوا منصب الرئاسة والتي أوصلت البلاد إلى الخراب في جميع المجالات.. نعم علينا أن نكف عن الكلام في السياسة لأن صاحب الوعد اسمه تبون وليس بوتفليقة ولا زروال ولا غيرهما حتى وإن كان قد عمل تحت سلطة هؤلاء جميعا وتولى مناصب رفيعة خلال فترتي حكمهما.
وإذا كان جراد قد تحدث بشيء من الدبلوماسية التي يكون قد استلهمها من مساره الجامعي، فإن وزير الداخلية تحدث بلغة الاتهام التي نقرأها في تقارير الشرطة والأجهزة الأمنية وذهب رأسا إلى اتهام من يشاركون في المظاهرات بالسعي إلى تهديم البلاد بإيعاز من الجهات الأجنبية المتمثلة في إسرائيل ودولة أوروبية وأخرى عربية لم يذكرهما، فالجزائر بوسعها الحفاظ على علاقات دبلوماسية كاملة مع دول تتآمر عليها وتسعى إلى تدميرها، كما أنها يمكن أن تغض الطرف عن عناصر تسيرها إسرائيل لنشر الفوضى رغم أن مصالح الأمن لا تتساهل مع المتظاهرين ولا تتوقف عن اعتقال بعضهم كما حدث يوم السبت عندما ألقت القبض على ستة وثلاثين متظاهرا في العاصمة تم إيداع اثنين منهم اليوم الحبس المؤقت.
السلطة منزعجة من استمرار المظاهرات، وهي لا تملك إلا العودة إلى نقطة الصفر، مزيد من الاعتقالات ومزيد من التخوين للجزائريين الذين يخرجون كل جمعة وثلاثاء واتهامهم بالسعي إلى تدمير البلاد، ففي الوقت الذي كان فيه بلجود يطلق تصريحاته البائسة والمهينة للجزائريين كان قاضي التحقيق بمحكمة سيدي محمد يأمر بإيداع سليمان حميطوش الحبس المؤقت، وينهي بأمر مماثل أربعة وثلاثين يوما قضاها سمير بلعربي خارج السجن بعد أن برأته محكمة بئر مراد رايس من تهمة المساس بالوحدة الوطنية التي قضى بسببها خمسة أشهر في الحبس المؤقت.
هذه هي الجزائر الجديدة التي يقول جراد وبلجود إن التزام تبون ببنائها ضمانة كافية لينهي الجزائريون كل أشكال الاحتجاج، كما أن القرار بوضع الصحافي خالد درارني تحت الرقابة القضائية ومتابعته بالتهمة الهلامية المتمثلة في المساس بالوحدة الوطنية لا يمثل شيئا أمام التزام تبون بتوفير شروط بروز صحافة حرة ومسؤولة كما قال جراد.
تظهر تصريحات ممثلي السلطة اليوم المأزق الذي وصل إليه النظام الذي اعتقد أن إجراء الانتخابات الرئاسية سيخرجه من مأزقه، وقد تبين اليوم بعد ثلاثة أشهر من إجراء هذه الانتخابات بأنها عمقت الأزمة بدل حلها، وأن المجتمع صار في حالة قطيعة تامة مع نظام الحكم وهو لا يلتفت إلى المسار الذي اختارته السلطة ولا إلى المواعيد التي حددتها لنفسها من خلال الحديث عن تعديل الدستور ووضع قوانين جديدة والذهاب إلى انتخابات تشريعية.
تخبرنا موجة الاعتقالات الجديدة، والعودة إلى خطاب التهديد والتخوين، أن أسلوب التحضير للانتخابات لم يتغير وهو يقوم على تغييب بعض الوجوه التي تعتقد السلطة إنها تشوش على الانتخابات وتحرض الناس على التظاهر رغم أن موجة الاعتقالات التي جرت خلال شهر سبتمبر الماضي لم توقف المظاهرات، والإصرار على هذا الخيار له تفسير واحد هو أن السلطة عاجزة عن القيام بقراءة مختلفة لما يجري على الأرض، وهي لا تستطيع أن تفكر في بديل حقيقي ينهي المشكلة من جذورها، وهذا مؤشر على عدم قابلية النظام للتكيف بما يعني نهاية صلاحيته.
فشل الانتخابات في إيجاد الحل تصاحبه مؤشرات اقتصادية مخيفة تجعل السلطة في حالة غير مسبوقة من الهشاشة لأنها تعرف أن كل البدائل لمواجهة ما هو قادم لا بد لها من ثمن اجتماعي باهظ لن يوافق على دفعه إلا مجتمع متضامن يثق في السلطة القائمة ويشارك فعليا في صياغة الخيارات السياسية والاقتصادية، وكل هذه الشروط غير متوفرة اليوم لأن السلطة اختارت أن تمرر مشروع تجديد واجهة النظام رغم الرفض الشعبي بدل إشراك المجتمع في مشروع حقيقي لبناء الدولة.
يرى الجزائريون يوميا علامات التسلط والاستبداد والرداءة وغياب الرؤية لدى الحكومة، لكن السلطة تقول لهم لا تصدقوا أعينكم واتبعوا وعود تبون والزموا بيوتكم وستأتي الحلول من السماء، لكن رد فعلهم لن يتغير، إنهم مصرون على حماية الجزائر دولة وأمة من هذا الفشل المبرمج.
الاعتراف بالفشل والإصرار عليه
18