ثمة مفاهيم تتلبس بأشياء وظروف التاريخ لتخرج عن منطق معانيها وأبجديات الحياة التي أسست لها، وتغدو مقلوبة في ضمائر العامة بتدبير ومكر ممن يحملون وعي الهيمنة والمصلحة من استغفال واستغلال العقول الطيبة والساذجة من العامة والخاصة حتى!
الأمر استشفيته شخصيا ولاحظته من بعض الردود والتعاليق حول مضمون مقالي الأخير ” منطق المصادرة كنهج خاطئ في تاريخ الوطنية بالجزائر” لبعض من لا يزالون بدافع المصلحة أو بغيرها يسعون بلا منطق إلى مسح الامة من مساحة التاريخ بكامله من أجل أن يطغى حضور الزعيم العالق في أوهامهم على هذا التاريخ ويغدو هو المبتدأ والمنتهى في تحنيط مقيت للوجدان السياسي بعد التحنيط الزمني للأبدان في هذا الفضاء الزمكاني الرملي للعرب!
قناعة مثل هؤلاء، أن الكرامة، السيادة والازدهار لا يمكن أن تحققه العبقرية الجمعية وقدرات الأمة بل يتوجب أن يظهر الزعيم المنتظر في كل حقبة من الحقب من غيب “التاريخ” وفي غيبة العقول لكي يُستوحى من خياله وفكره نهج الخلاص وطرق التقدم والتمشي تجاه الرفاهية، وحال ما يغيب الموت هذا الزعيم القادم من “غيب التاريخ” فإن أنوار الوطنية سنطفئ ويجثم دجى الليل الوطويل على المجتمع فيعمُّه العمى!
واضح أن “الوطنية” وفق هذا المنظور العربي العالمثالي المكسور المأسور، قد تشكلت في خيال هؤلاء من تراكمات خطاب ساقته منظومات حكم لحقب عدة وفق أسس نشأتها ومعالم توجهاتها، لهذا أشرنا في غير ما مرة أن المفاهيم تتطور وفق تطور السياقات العامة للمجتمعات والظروف الزمنية التاريخية التي تتحكم فيها.
وعندما يستقر ويأبى التغيير مفهوم ما السياسي أكان أم اقتصادي أم اجتماعي في وعي البعض دونما مراعاة للظروف الجديدة المتجددة التي وإن لم تمسخه (المفهوم) فقد تنسخه، ندرك ساعتها أن العقول تلك، لا تزال متوقفة في زمان عمرها وعمر زمانها، بفعل خيبة الحاضر لا ترى العالم من حولها إلى مبتورا من حواشي ظل ما تراه!
الوطنية العربية والعالمثالية عموما متوقفة بفعل زخم أناشيد البطولات، وزغاريد الفخر ورصاص التحرر المرسوم على دفاتر مدرسة التاريخ والتاريخ المدرسي، عند الشعور الأركيولوجي المحنط في صدر تاريخ الوطن وعنف تحريره من الاستعمار.
الشأن ذاته لدى من يحمل بوهم وخطأ مفهوم خلود الإسلام وفعاليته في الحضارة والتاريخ، إذ يعتقد بأن لا يتم إلا عبر اجترار تجربة الجيل الأول من الإسلام ووسائل تدبيرهم الدعوية و”التزيي” بزييهم وتزين بزينتهم المظهرية هو ما سيجعلهم حقا (إسلاميين) حقيقيين، في حين أن المسألة هي أعمق من ذلك بكثير في ظل تطور مفاهيم التأسيس والبناء الحضاري وتقدم الفكرة الدينية فيها واستدبارها.
هكذا أيضا يظن حملة شعار “وطنية” الزعيم المقدس، على طريقة الطرُقية أو الطرائقية الدينية، أن لحظة التأسيس للوطنية هي مستقرها ومنتهاها الذي تجري فيه وإليه، وأي تفكير في عدا ذلك سيجلب لصاحبه “التكفير” الوطني الذي يشابه التكفير الديني لمن تجاوز فترة التأسيس الأول للإسلام حضارة وتاريخا بل وربما زمنا أيضا!
ونسي ذلك الذي ضرب لنا مثلا بالديغولية والبوتينية والماوية كحاجة لقيام المجتمع، بأن هؤلاء لم يصادروا مثلما أشرنا “الوطنية” كمفهوم ومشروع حتمي للمجتمع، وأن مشاريعهم التي بعضهم حمل توجها خاصا في السياسة والعمل الوطني (الديغولية) بل والكوني أحيان (الماوية) إنما كان اجتهادا من التراث السياسي، الوطني والفكري لبلدانهم وليس مصادرة ولا احتكارا أو حجبا لهذا التراث المشترك العام.
والماوية ذاتها على “قدسية” ماو وقتها في الأوساط الصينية الشعبية، لاقت في مشروع ثورتها الثقافية عنتا واعتراضا كبيرين في الأوساط النخبية وقواعد التفكير وحملة معنى الوجود الوطني السابق للفكر والنظام الشيوعيين، ولا أحد اعترض على زعامة “ماو” لكن الكثير اعترض على مصادرة الحقيقة الوطنية للثقافة والثقافية للوطن.
إذن متى يفهم دعاة “زعيم الوطنية” الأحد الأوحد، أن الوطنية حركة في التاريخ لا مستقر لها في الزمان تمضي مفهوما وتطبيقا بحسب حركة التاريخ، منسجمة مع طارئيته ومستجداته وأي سعي لتحنيطها أو أرسالها إلى المقابر مع من يزعم بزعامتها، إنما هو خلل في الوعي، في العقل وفي الخيال ينجم عنه اختلال مرضي كارثي في بنى المجتمع ككل.