من غير دهاء سياسي ولا ذكاء استراتيجي يمكن الإقرار بهما، استطاعت منظومة الحكم في الجزائر أن تمتد وتتمدد في عمر دولة الاستقلال، قيادة للبلاد واقتيادا للوعي المجتمعي ما استرعى دوما طرح الأسئلة القلقة المتعلقة بسر الانكسارات الكبرى لمسارات التغير التي قادتها تيارات وجماعات معارضة ذات الأصول والعقول المختلفة والمتخالفة، كيف أُحجمت وحُجمت في معركة التغيير تلك؟ وما مصادر القوة التي تتغذى منها منظومة الحكم تمكنها من نسف كل مشاريع التغيير تلك وتظل متولية أمر المجتمع تدبيرا وتسييرا تفرض حكوماتها، برلماناتها وجالسها الانتخابية المحلية، نقابتها بل حتى رؤساء اتحاداتها الرياضية في إقصاء تام ودائم لإرادة المجتمع؟
في إحدى حلقات سلسلته الشهيرة التي كانت تُبث عبر التلفزيون المصري، ساق الطبيب والمفكر المصري الراحل مصطفى محمود، سر أساس الاستمرار العضوي في الوجود مختزلا إياه في قاعدة جوهرية وهي شرط “التكيف” معنونا حلقته تلك بـ”من لا يتكيف يموت” يترتب عن ذلك جدلا بمفهوم المعاكسة أنه من يتكيف يستمر في الحياة، كونه استلان الليونة الموضوعية التي تجعله يمر من خلال عوائق وعقابيل الظروف الموضوعية التي تضبطها حدود ذاتية للمكنون والموجود وبالتالي يكون قد تفاعل وفعل مع تلك الظروف.
فإذا كانت منظومة الحكم في الجزائر المستمرة منذ الاستقلال، قد استطاعت الاستمرار غير المنطقي في قيادة واقتياد الوطن، عبر الواجهتين الرسمية (الحكم) والرمزية (الوعي) فذلك لكونها استطاعت أن تتكيف مع متقلبات العناصر التاريخية التي تحكم العالم ككل اليوم في سياقات متقلبة من التطور، تمس بعضها أساسات السياسة كالدولة مفهوما وممارسة، وقراءة وجيزة لدباجات ومكنونات بنية الدولة في الدساتير التي صاغتها المنظومة الحاكمة وفرضتها منذ الاستقلال، تعطينا صورة مهولة حول مستويات التكيف التي سلكتها هاته المنظومة كي تظل على قيد الحياة، من غير أدنى اهتمام بطبيعة الوعي السياسي للمجتمع ومستويات القدرة على التكيف من عدمه مع ما تفرضه “المنظومة” تلك من أشكال ووسائل التحكم في المجتمع لا تتماشى سوى مع رغبتها في “التكيف” مع معطى التغييرات الداخلية والخارجية بخاصة دون إيلاء أدنى أهمية لسؤال المقدرة أو الرغبة المجتمعية على الاستجابة لتلكم الوسائل والتوجهات.
فمنظومة الحكم انتقلت من “المُغلق الأحادي” الذي سجنت فيه المجتمع والدولة معا لثلاثة عقود كاملة، إلى “المغلق التعددي” الذي يسمح لنماذج المعارضة من أن تحضر لتتكلم دون أن تحكم، بمعنى أنها استطاعت أن تتكيف مع طبيعة مرحلة سؤال الانتقال الذي يفرض قلقه على المجتمع منذ عقود من الصراع السياسي في البلد.
في مقابل هذه المقدرة النسبية على “التكيف” مع مستجدات التدافع التاريخي والمتغيرات التي يطرحها ويفرضها في السياسة وأشكال ومشاكل الحكم في العالم، نجد الإخفاق المهول لنخب المعارضة الجادة في الجزائر، إذ اتضح بأنها أعجز ما تكون هي عن المقدرة على التكيف مع تلكم المستجدات وبقائها رهينة ثوابت خطابتها السياسية وجواهرها الفكرانية الأولى لا تلين ولا تستلين، تعادي من حاد عن خطها ومخطوطها معتبرة أنها حاملة للحقيقة فتخلط التاريخ بالسياسة والفكر بالاستراتيجية والتكتيك بالنيِّة !
ففي الوقت الذي تبدو فيه منظومة الحكم متحررة من كل ثابت قديم قدمته للمجتمع يوم صادرت الاستقلال الذي كان ثمرة جهاد واجتهاد كل التيارات داخل الحركة الوطنية، وقفزت بهذا المجتمع من اليسار إلى اليمين، من الاشتراكية التي (لا رجعة فيها) إلى الرأسمالية التي (لا مفر منها) كما قال بوتفليقة، ـ في هذا الوقت ـ لا تزال تيارات المعارضة مرتهنة للحظة تأسيسها الأولى متكلسة غير “متكيفة” مع شروط البقاء، لأنها تتلافى الأسئلة الموضوعية القوية بشأن طبيعة المرحلة الحالية وما تقتضيه من تضحيات والتنازلات ومراجعات جوهرية تقفز على الكثير من شروط لحظة التأسيس تلك!
هكذا شاكلتان متناقضتان في التعامل مع شرط “التكيف” السياسي مع مستجدات وشروط التاريخ، كانتا سبب جوهري في الإخفاق المستمر باتجاه التغيير الذي ينشده المجتمع الجزائري عبر كامل الصعد، السياسية، الثقافية، الاجتماعية وطبعا الاقتصادية، إذ يرى هذا المجتمع أن تغيير لا يحدث سوى داخليا أي بإرادة أحادية تنتهي نتائجها دوما إلى نقطة البداية في حركة مغلقة بل ومحكمة الاغلاق، يعبر عنها لغة بأشكال عدة “ديمقراطية الواجهة” “السلطة الفعلية” “التعددية المصطنعة”..
فعدم “التكيف” كخيار مميت الذي طبع سلوك نخب المعارضة الجادة بمختلف مرجعياتها وتياراتها جعل من السهولة عزلها عن بعضها أولا تنضيا لقوتها، وثانيا نزع الأصل الوطني منها على اعتبار أن الوطنية “مصادرة” ويتم توظيفها في سياق “التكيف” بشكل مفرط كمثل ما حصل مع ما عرف بالعقد الوطني بسانت إيدجيديو سنة 1995 يوم رمت المنظومة الحاكمة إذ ذاك التيارات المشاركة والملتزمة بنصوص العقد بكل الأوصاف غير الوطنية!
خلاصة، يبدو أن العقل الوطني في الجزائر لا يزال أمام إشكالات جمة في العبور إلى البر الذي ينشده المجتمع منذ لحظة قلق الاستقلال الوطني الأولى، إذ صار حتما عليه التخلص سياسا من مأزق سؤال الشرعية الأولى، وتجاوز منزع الايديولوجيا التأسيسية الأولى التي رأى بها النور واستقر عليها حاله في انفصام تام عن التاريخ وجراه ومجرياته، والتفكير في كيفية التكيف بجد مع المستجد الكوني والوطني كي يسهم كل تيار منه في انقاذ نفسه أولا ثم المجتمع من الموت التي يتهدده بسبب عدم التكيف!