
رشيد زياني الشريف
لجأ الطغاة عبر العصور، إضافة إلى احتكارهم وسائل العنف، إلى آليات التضليل والبروبغندا، للتحكم في الشعوب.
وقد تميز غوبلز في هذا المجال، وتفوّق على غيره، إلى درجة أصبحت إستراتيجيته تدرس في المعاهد. وحتى إن أصبحت هذه الآليات عتيقة نوعا ما في زمننا، إلا أن بعضها لا يزال، للأسف ساري المفعول بل استفادت من التكنولوجية الحديثة ووسائل التواصل، وهذا ما نشهده بالتحديد عندنا في الجزائر، خاصة منذ انطلاق حراك الشعب في هبته المباركة من أجل وضع حد للاستبداد واستعادة الكرامة المسلوبة. في سياق هذه الإستراتيجية، القائمة على التضليل والبروبغندا، يقولون…
أن الجماهير المحتشدة كل جمعة وثلاثاء هي صنيعة التوفيق وشبكاته وأنها من بقايا الدولة العميقة أو على الأقل موجهة من قبلها.
مثل هذا الزعم يتضمن،
أولا ازدراء للشعب والانتقاص من شأنه، وهو سلوك تنتهجه كل الأنظمة التي ألفت احتقار شعوبها واعتبارها عاجزة بالفطرة، لا حولا لها ولا قوة، لتزرع فيها الشعور بالصَغار والهوان، وتقتل فيها كل بذرة من بذور التفكير في الثورة على استبدادها. أصحاب هذا الزعم يعتبرون الشعب غير مؤهل من تلقاء نفسه، للثورة ضد الطغيان، وأن هبته النوعية يوم 22 فبراير، حبكتها جهات أشباح، تعمل وراء الستار، داخل البلاد وخارجه. إذا سلمنا بهذا الزعم، ألا يعني ذلك تلقائيا أن كل حركات التحرر من الاستبداد المحلي والخارجي، هي مناورات لجهات مشبوهة توظف الشعوب المغلوب على أمرها وعديمة القدرة؟
ثانيا، إذا كانت هذه الهبة الشعبية من صنع توفيق وشبكاته، فمعنى ذلك أن صورة الأسطورة التي شاعت عن توفيق كونه داهية ومتحكم في جميع شبكات الدولة، هي صورة زائفة وعملاق من ورق، بل أنه قد بلغ من الغباء مرتبة سحيقة تدخله في سجل غينس، لأنه بـ »إطلاق » الحراك، يكون قد سمح للجني من الخروج من الزجاجة ويكون هو (توفيق) من أوائل ضحايا صنيعه، ليوقع بنفسه في الشباك، حيث يرزح اليوم مع مقربيه في السجن.
وثالثا، حتى لو افترضنا أن هبة 22 فبراير كانت بإيعاز من توفيق وشبكاته، مباشرة أو بشكل غير مباشر، تأييدا منهم أو دعما أو مباركة، فقد اثبت الشعب أنه أذكى وأقوى من توفيق وشلته، لأنه حقق بذلك مطلبه وهو مستمر في حراكه، في حين لم يتحقق مطلب توفيق، بل الخناق يضيق يوم بعد يوم بكل المفسدين من فصيلته.
رابعا، يقولون أن الحراك يخدم توفيق والدولة العميقة، وهذا ما يفنده الشارع والواقع، تفنيدا قاطعا، حيث تصر الجماهير على إقامة دولة القانون والمؤسسات والتسيير الشفاف لدواليب الحكم، مطالبين بدولة مدنية، لا عسكرية ولا مخابرتية ولا بوليسية، ولا يمكن لأحد الادعاء أن هذه من مطالب منظومة توفيق، وهو الذي عمل طيلة تحكمه على القضاء المبرم على كل صوت حر أبي، فكيف يغامر بذلك وهو مكبل اليدين وراء القضبان.
يقولون أن فئات عريضة من ضحايا توفيق سابقا، بلغوا قدرا كبيرا من السذاجة بوقوفهم في صفٍ واحدٍ مع جلاديهم، بينما المسار والمبادئ التي يتحلى بها من يُتهَمون بالسذاجة تؤكد أنهم لا يقفون إلى جانب الجلاد بل يعارضون الاستبداد كيفما كان وأيا كان الشعار المرفوع ولا يريدون أن تتكرر المأساة بفاعلين آخرين، ولا يريدون أن يعيش الشعب مراحل أخرى من الاستبداد وسلب الإرادة، قهرا وتضليلا، وكونهم كانوا ضحايا استبداد اليناريين، قد فتح بصيرتهم وضمائرهم وجعلهم أكثر حرصا وإدراكا، لرفض أن تتكرر العملية، بأي حجة أو ذريعة و وبصرف النظر عن هوية الجلاد أو الضحية.
يقولون، أن الحراك انحرف عن مساره الأصلي ووقع رهينة بين أيدي الأقلية العلمانية الاستئصالية. لكن، كيف لشعب تحرر من حكم العصابات المتغلبة ورفض استبدادها الغاشم، بما تملكه من وسال قهر وقمع وتضليل، أن يقع في حكم أقلية منبوذة، يعلم العام والخاص أنها صنيعة الاستبداد أصلا ولا وجود لها على أرض الواقع، وهي أقلية مجهرية تضخمها وسائل الإعلام في الداخل والخارج، وكانت ستتلاشى « طبيعيا » لولى حماية الأجهزة الأمنية والعسكرية ورعايتها لها، مثلما تبينه العشرية الدموية، عندما وظِفت مخلبا من قبل الانقلابيين، لإضفاء طابع مدني حدثي للنظام العسكري الانقلابي.
يقولون أن الدولة المدنية معناها دولة علمانية (ربما كان ذلك صحيحا في عهد النظم الإقطاعية في ظل استحكام الكنيسة في شؤون الناس لإطلاق يد الملوك ليتحكموا في رقاب العباد)، لكن مفهوم المدنية المعتمد اليوم هو رفض الدولة العسكرية، ورفض استحكام مجموعة من الضباط في شؤون الدولة، بلا حسيب ولا رقيب، بما يتعارض مع الإرادة الشعبية ومقتضيات الدستور، أما مشروع المجتمع، علماني كان أو غيره، فليس من حق أحد، أن يفرضه على الشعب، بما يتعارض مع قناعته مرورا بصناديق الاقتراع متى توفرت الظروف، ومن نافلة القول أن الشعب الجزائري في معظمه متشبع بقيم حضارته الإسلامية وغير مستعد لمقايضتها بأخرى، لكن، بالمقابل، لا يعني ذلك أنه سيقبل بحكام يدعون التأييد من السماء، ويقررون نيابة عن الخالق، دون محاسبة أو رقابة، بل الحكم السياسي تجربة بشرية، لا تعرف العصمة، تزكي من يحقق مطالبها وتقصى من فشل في ذلك أو ثبت فساد ذمته وخيب أمالها.
يقولون أن قيادة الجيش ترافق الحراك وتحميه، في حين الواقع يبين العكس تماما، لأنها لو أرادت حقا مرافقته، فلا يعقل أن تضّيق عليه السبل وتضلل مساره وتفرض عليه خطتها، ناهيك عن اعتقال العشرات ممن يعارض خططها، فتلبس لهم التهم الباطلة التي عاف عليها الزمن. إننا نعيش عصرا لم يعد المواطن يقبل فيه ترك مصيره بين أيدي غيره يحدد له معالمه، ويرفض تخويل الجيش (أو جهة أخرى) صلاحيات ليست من حقه، مثلما لا زالت مجموعة من الجنرالات، تفعل حتى يومنا هذا، في تعيين الرؤساء والحكومات، بل ومخاطبة المواطنين من الثكنات، و »استدعاء » الهيئة الناخبة. لو أرادوا مرافقة الحراك فعلا وصدقا، يكفيهم فقط ألا يطعنوه في الصدر أو الظهر على غرار ما فعله زملاؤهم اليناريون.
يستهجنون، كيف يقف ضحايا انقلاب يناير 92 إلى جانب طابو وبوشاشي وغيرهم، في إشارة إلى علمانيتهم، وكأن الاختلاف في الرأي والمنهج والتوجه، خط أحمر، يحرم الاتفاق حول أرضية مبادئ مشتركة، كحد أدنى يشمل الجميع بصفتهم مواطنين؛ أليسوا جميعهم جزائريين كاملي المواطنة؛ أليس من حق الجميع أن يعرض ما يؤمن به ثم يعود للمواطن وحده الحق في الفصل واختيار من يقرب ومن يُبْعِد؟ العقول المتحجرة هي التي تضيق بالاختلاف، أما الجزائر الفسيحة الرحبة لا تضيق بأي فئة من فئاتها؛ ثم هل سنقضي على كل من يخالفنا الرأي؟ أليست هذه العقلية هي التي تبناها الاستئصاليون لقتل وتشريد وتعذيب واختطاف الآلاف من المواطنين؟ هل يريد القوم أن نحذو حذو المجرمين؟ لا يمكن وليس من حق أحد أن ينكر وجود أو تجاهل أي فئة موجودة، ناهيك عن إقصائها بطرق غير شرعية؛ دولة القانون التي ننشدها تتيح للجميع حق تقديم أطروحاتهم وبرامجهم، بطريقة سلمية حضارية، أمام الصناديق ليقول الشعب كلمته فيها، إما تزكية أو إقصاء شرعي دون حيف أو تعسف.
يقولون أن فئات عريضة من الشعب لا زالت غير ناضجة وغير مستعدة للإنصات إلى بعضها البعض وتقبل اختلافاتها، وان العسكر هم وحدهم أهل لذلك، ويشكلون القوة المنظمة الوحيدة القادرة على حماية بيضة الجزائر. أولا لو كان الأمر كذلك، نسأل إذن من أينا جاءنا الدمار الذي نعيشه اليوم، علما أن الجزائر يحكمها فعلا وواقعا العسكر بالمطلق منذ استقلال البلد، ثانيا، إذا اعتبرنا الجيش القوة المنظمة الوحيدة، فتلك ليست تزكية تُحسب له، بل نقيصة يتحمل المسؤولية عنها، لأنه باحتكاره السلطة منذ 62 قضى بشكل منهجي على كل القوى الأخرى، سياسية واجتماعية وثقافية، إما بإبعادها أو اختراقها أو تفجيرها من الداخل، لكي يضل وحده الماسك بزمام الأمر، والنموذج الأبرز على ذلك، استيلاء جهاز توفيق (مديرية الاستعلامات والأمن ، وقبله الأمن العسكري) وشبكاته على كافة مراكز القرار في الدولة، المنهج الذي يستمر العمل به إلى يومنا من قبل البوليس السياسي التابع للقيادة العسكرية الحالية. أما عن استحالة اجتماع فئات الشعب بمختلف مشاربها السياسية، فذلك ممكن عكس ما يدعونه، ويبرهن عليه العقد الوطني في 1995 عندما التقت أبرز الأحزاب والمنظمات والشخصيات الوطنية في روما، حول أرضية من أجل وقف النزيف وإخراج البلاد من أزمتها، ولم يكن آنذاك عدد الضحايا تجاوز 40 ألف، لكن نظرا لتعنت السلطة الانقلابية ورفضها « جملة وتفصيلا » (على لسان وزير الخارجية آنذاك احمد عطاف)، ارتفع عدد ضحايا المأساة ليتجاوز ربع مليون قتيل وزهاء 20 ألف مختطف، وهو ما يثبت أنه باستطاعة فئات الشعب التلاحم مع بعضها رغم اختلافاتها حول حد أدنى وطني، ويؤكده اليوم تماسكها في الحراك المبارك، رغم المناورات والعقبات والدسائس المنتشرة لنسفه بشتى الطرق.
لكن هذه طبيعة المستبد، إنه يضيق بل ولا يطمئن لاجتماع كلمة المواطنين، بل يبذل قصارى جهده لكي لا يحدث ذلك. ما فتئت مختلف العصب المتحكمة عندنا تؤسس حكمها على زرع الموانع لتحول دون تفاهم الجزائريين فيما بينهم، تارة بإذكاء النعرات الطائفية والأيديولوجية لإثارة العداوات بين الأطراف وتارة أخرى بتضخيم الفوارق ومنع التحادث المباشر بينها، وفي مساعيهم لمنع أي تغيير حقيقي يزيلهم عن سدة الحكم وينهي استبدادهم ويعيد السيادة إلى أهلها، إلى الشعب الجزائري، لا زالوا يقولون…