
بشير عمري
لنضرب صفحا عن إمكانية حدوث الانتخابات الرئاسية القادمة التي حدد يوم 12 من ديسمبر المقبل موعدا لها، من عدمها، ونسعى ونكتفي بمحاولة رسم احتمالات المشهد السياسي الشتوي القادم الذي تستشعر فيه من الآن تلاويح حر في طقس شاذ عن طقوس السياسة الباردة بالجزائر لفترة نافت عن عقود ثلاث أي من حر شتاء 1991 الذي عرف نهاية الأسطورة “الوطنية” كعقيدة حاكمة في الجزائر بقناعة القوة لا بقوة الإقناع، وبداية ظهور مرحلة جديدة من المراس السياسي الوطني التعددي الواعي والواعد سرعان ما تم إجهاضه بليل وأعيد البلد إلى مربع الاستبداد بعنف انقلاب 1992 وما سالت بسببه من دماء قبل أن يستحيل إلى استبداد ناعم في العقدين البوتفليقيين المشؤومين.
فما الذي يمكن توقعه بخصوص الاستحقاق الرئاسي القادم وفق المعطيات التي يتساجل الأضاد فيها حول إمكانية وقوع الانتخاب من عدمه؟ وهل سيتحقق الحلم الثوري الذي رفعه الحراك بالانتقال من نظام إلى نظام جديد؟ وأي المرشحين يمكن أن يفرض التأسيس على الرئاسة أو الرئاسة على التأسيس؟
هي كلها أسئلة القلق الوطني الذي قد تنهي الإجابة عنها الأزمة السياسية التي حبكها بوتفليقة بإحكام بعبثه الدستوري والمؤسساتي طيلة عشرين سنة، أو تفاقم منها بحسب ما يراه الملاحظون.
لكن الإجابة الاستشرافية المستقيمة على مسطرة التحليل الاستباقي تقترح علينا سيناريوهات عدة في ظل الإعاقة الكبرى التي تعانيها ساحتي الجزائر، السياسية حيث ضُربت المعارضة بمقتل منذ ثلاثة عقود وعادت مجرد جهاز اكسسواري تابع يُستكمل به زينة السلطة، والإعلامية التي كُبلت منذ تجربة 89/92 وغدت على غرار كل الفضاءات الوظائفية للمبدأ التعددي، منغمسة في همومها التجارية ووأضوع شغيلتها الاجتماعية وسبل بقائها في السوق على حساب رسالتها ومهنيتها، فلم تستطع أن تنجب كتابا متميزين يشتغلون فوق النزعات الإيديولوجية والتملق المصلحي ويصبحون مرجعا وطنيا للكتابة السياسية بالبلد.
لكن قبل الشروع في محاولة طرح السيناريوهات تلك واحتمالاتها ومحمولاتها، يلزمنا في البدء تحديد الأطراف الرئيسة في اللعبة السياسية الانتخابية القادمة أو التي صارت تتبدى هكذا، تلك التي باتت أوراقها تتضح ومطامحها تنفضح حتى قبل بدء عمليات إيداع الترشيحات لدى السلطة المشرفة على العملية الانتخابية.
وهنا تتوجب الاشارة إلى ذلك الارتسام الجديد للمشهد السياسي الذي أضحى تقليدا في الجزائر حيث يلجئ إليه في كل موسم انتخابي مأزوم، أين يُصار إلى الدفع بأسماء من النظام متعارضة أو مضادة لشلة من قياداته المغضوب عليها شعبيا، وتقديمها على أساس أنها ليست السلطة وهي غير ملوثة بلوثتها، من ذلك ما يُشار به إلى عبد الجيد تبون الوزير الأول السابق الذي لم يخف يوما ولاءه التام لعبد العزيز بوتفليقة وحرصه الدائم على أن يجسد “برنامج بوتفليقة” بحذافيره والجزائريون يعيشون وأقسى وأمر ويلات ذلك البرنامج اليوم !
كما ويتم انتقاء وجوه من “المعارضة الموالية” تلك التي صنعها النظام لنفسه وأوجد لها زعماء وأصواتا ومقاعد بالسرايا والمجالس النيابية في كل أعراس السياسة ومهرجانات الانتخابات المتتالية، والحديث يكثر بخصوص هذا النموذج اليوم عن عبد العزيز بلعيد رئيس حزب جبهة المستقبل، الذي تصدى للأصوات المنادية بضرورة حل الحزب الحاكم في الجزائر (جبهة التحرير الوطني) في غير ما مناسبة مؤكدا أنه أحد منجباتها مدافعا عن هذا الحزب أكثر من دفاعه عن حزبه !
كما أنه ثمة شخصيات من مراحل وأجيال السابقة من النظام، انشقت عنه ليس بقناعة تاريخية متصلة بفلسفة النظام في الحكم، ومقتضيات التجديد التي صار تفرضها شروط العصر، وإنما لتصادم مصلحي مع بعض قيادات النظام المرحلية، من هؤلاء ثاني رئيس حكومات بوتفليقة المتعددة، الحقوقي على بن فليس، الذي ظل مهووسا بمنصب رئاسة الجمهورية من يوم تمرد على بوتفليقة وقرر الترشح بتزكية من جهات عسكرية وأمنية كبرى سنة 2004، قبل أن يختفي إثر هزيمته وهزيمة داعميه عسكرا ومدنيين، ويعود عشر سنوات من بعد ذلك ليترشح ويلقى ذات المصير، فاليوم قد يرى أن الطريق بات معبدا له لتحقيق حلمه بدخول قصر المرادية، فسارع في أول تصريحاته التي اعتبرت مغازلة للسلطة الفعلية إلى الحديث عن “توفر الشروط اللازمة لإجراء أول انتخابات رئاسية نزيهة” !
بالعودة إلى السيناريوهات، يرى جل الملاحظين الجهات الفاعلة في إدارة البلاد، حاليا هي ماضية إلى ترسخ النظام القديم لكن فقط بدون العصابة الأولى، بمعنى أننا حاليا بصدد تغيير داخل البنية الضيقة للنظام دون الواسعة منها، فضلا عن أن نكون بإزاء تغير في الدولة مبنى ومعنى كما يطالب ويناضل من أجله الحراك.
لأنه إذا كان النظام قد فرض إرادته في الذهاب إلى انتخابات رئاسية، خارج كل أطر المفاوضات والتوافقات، وفق خارطة طريقه التي رفعها من يوم أطاح الشعب ببوتفليقة وإخوته وبعض حاشيته ممن صاروا يحملون ميسم “العصابة” في الخطاب السياسي والإعلامي الوطني في عهد الحراك الحالي، فكيف يمكن بمنطق التحليل الموضوعي تصور بروز أو يفوز مرشح “خارجي” على النظام وشاذ على ورقة طريقه هاته برئاسة الجمهورية، لأن ذلك سيعني بالضرورة التنازل الانتحاري من النظام ذاته للتيار التأسيسي كي يتمكن من هرم السلطة وبالتالي يحوز القدرة على تقويض أسس هذا النظام الذي ما استمات بكل تلك الشراسة والعناد لنصف سنة أمام الريح العاتي للحراك إلا ليذرأ عن نفسه خطر الاقتلاع ويبقى على قيد الحياة.
ووفق هذا المعطى، وأخذا بسابق تصريحات قائد أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق أحمد قايد صالح، والتي قطع فيها الشك باليقين بخصوص ورقة طريقه لحلحلة الأزمة الجزائرية، يوم أكد على استحالة الاستجابة لمطالب التغيير الكبرى للحراك ذاهبا إلى حد وصفها “بالمطالب التعجيزية” والأكثر من ذلك أنه رسم في الوقت ذاته خارطة طريق الرئيس الجديد، الذي سوف يكون على رأس مهامه مواصلة محاربة وتطهير البلاد من الفساد والمفسدين، بالمعنى الصريح لا “تأسيس” جديد كما يحلم به الحراكيون أو ما تبقى منهم في الأفق، وعليه فالرئيس سيكون من تيارات الانتخابات وليس من تيار التأسيس ولا حتى ممن يقف بينهما، والمتتبعون للشأن الجزائري، صاروا يشيرون في هذا السياق إلى رجحان كفة الوزير الأول السابق عبد المجيد تبون الذي لم يعمر في وظيفته أكثر من شهر قبل أن تقتلعه الاوليغارشية المحبوس رأسها اليوم بالحراش، وقد يتم قريبات توجيه الإعلام للتركيز عليه وتقديمه على أساس أنه “بوتفليقي نظيف” وأيتهم في ذلك وقوفه في وجه رئيس مندى رجال الاعمال علي حداد الذي يوجد رهن حبس الحراش، ما كلفه العزل من منصبه، ولعل هذا ما تنبه له الرائد بورقعة في تصريحه الشهير يوم القال بأن السلطة حسمت أمرها ولها مرشحها، ما كلفه العودة إلى السجن السياسي مرة أخرى في خريف عمره.
كاتب سياسي جزائري