Home Actuel (1) محنة الإعلام الجزائري بين منطق الوظيفة وجرم”التوظيف” من ما بعد ثورة التحرير إلى ثورة الحراك

محنة الإعلام الجزائري بين منطق الوظيفة وجرم”التوظيف” من ما بعد ثورة التحرير إلى ثورة الحراك

by Redaction LQA


بشير عمري

 25/10/2019
https://alsiasi.com/

يغفل الكثيرون فلربما عن حقيقة أن الصراع الحاصل بين إرادة لحراك الثوري في تغيير النظام وإرادة السلطة في الاكتفاء بمجرد تجميله، إنما تحفل بمصير أيلولته المنابر الإعلامية بدرجة لا تقل عن منابر الشارع، وذلك عائد بالأساس لغفلة هؤلاء عن حقيقة أن النظام ما كان له ليستديم رابضا على واقع الأمة وجاثما على وعييها طيلة عقود ستة، لولا أنه كان يحتكر سلطة الكلام في الإعلام، ولما أن تطورت آلة الاتصال بخلقها للإعلام الشعبي عبر النت، صار الصراع يتكافأ بل يميل لجهة الشعب، غير أن سوء الأداء الإعلامي من الشعبي واستمالة السلطة للمنابر السمعية البصرية الثقيلة حالة دون حسم المعركة، موقعا المجتمع في حالة الالتباس واحتباس خطيرين في مأزق اللحظة الثورية الحالية.

فكيف كان مسار التجربة الإعلامية في تطور المجتمع السياسي الجزائري؟ وما هي المطبات الكبرى التى هوى إليها في ثورة شبانه “الحراكية” اليوم؟

تطور الوظيفة الإعلامية

كنا قد أشرنا في غير ما مناسبة في معرض نقدنا لدولة الاستقلال في الجزائر وشاكلة انحرافها التاريخي، كيف أن نخبها العسكرية التي استولت السلطة صائفة 1962، عملت على إنتاج سياق مجتمعي آخر قاطع من حركة تطور المجتمع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومارست الأبوية بكامل ما يتسع إليه اللفظ من دلالات، ومن مجالات ممارسة الوصايا تلك كانت الوظيفة الإعلامية التي اتصلت بوثاق وميثاق غليظين في أعراف المجتمعات الحديثة والحداثية بقيمة الحرية وسلطة الحق في الإعلام على حساب حق السلطة في الحكم، بيد أنها في مشروع نظام الاستقلال الذي انتهج نهج اليسار المسلح والاشتراكية الشرقية المعلبة ونموذج البترياركية المشرقية المطلقة، جُعلت جزء من مسئولية الدولة باعتبار هاته الأخيرة القائمة، ليس بحاجة المواطن المجتمعية والاقتصادية بل بتطور وعييه الوطني والتاريخي وهذا وفق ما تمنحه من منظورها التنشيئي الخاص، وهكذا ظل لـ “الدولة والمجتمع” إعلام واحد أحادي يخاطب من خلاله النظام المجتمع وهذا الأخير يتلقى ويأتمن ويأتمر.

نهاية الاتصال وبداية الانفصال

ومع بداية فشل المشروع الوطني الوحيد الذي وسم تجربة النظام السياسي المستمر في الجزائر، ونعني به مشروع بومدين وثوراته الوهمية الثلاث، وصيرورة المجتمع تدريجيا إلى شيء من الوعي الناقم صار يتعاظم ليغدو ناقدا لممارسة السلطة، شرعت المصداقية الإعلامية تتساقط من نكسة تنموية إلى أخرى، وبذلك أنفتق ذلك الرتق المكره بين الدولة والشعب على صعيد الوظيفة الإعلامية واستحال ل “الدولة إعلامها” من خلال استبقائها للهيمنة على الوظيفية الإعلامية بكامل صنوفها المكتوب، السمعي والسمعي البصري، في حين بدء فضاء التلقي يتفتح أكثر على المنصات الموازية أو الناشزة عن الخطاب الإعلامي الرسمي لا سيما الخارجي منه، وبالأخص السمعي منه على اعتبار أن السمعي البصري كان لا يزال في حدود قدراته التكنولوجية الأولى.

بداية الانفصال بين خطاب “إعلام الدولة” والتلقي النخبوي خاصة، كان مثابة إيذان بعهد جديد من الوعي الوطني السياسي راح يتشكل ويتكتل متغذيا من نقديات الغير لمشروع دولة الاستقلال في الجزائر.

إعلام الدولة وإعلام الأمة

حالة الطلاق بين إعلام الدولة واستهلاك المجتمع، انتهت بتعاظم وعي الرفض وتفتقه وتفتحه على نماذج ومشروعات وطنية وفكرية أخرى، وأمام أزمة النفط الكبرى لسنة 1986 التي سددت الضربة القاضية لمشروع دولة الاستقلال، ستبرز القطيعة النهائية بين المجتمع المتنمذج إعلاميا من خارج فضاءات الخطاب الرسمي والدولة فتفجرت انتفاضة أكتوبر 1988 فارضة التحرر من أحادية الخطاب الإعلامي، فانتقل المشهد إلى وضع جديد فيه إعلام للدولة قاطع من لحقائق المجتمعية وفيا لاتصاله السُري بلحظة ميلاده الأولى مع حركة الإجهاز على الشرعية سنة 1962 وإعلام للأمة متعدد ومتنوع يعيد قراءة المجتمع وفق رؤى أخرى جديدة، صار معها الشعب يعيد اكتشاف نفسه في التاريخ .

ولكون التعددية لم يكن أمر التسليم والاتفاق بشأنها كخيار حتمي داخل سريا الحكم الأحادي، وكمقتضى تاريخي تفرضه التغيرات الحاصلة بسرعة في العالم، وما كان القبول المؤقت بها سوى على مضض، فقد عمل المناوئون لها من التيار المحافظ في النظام على ضرب التجربة الإعلامية التعددية منذ اللحظة الأولى للإجهاز على المسارين الانتخابي والديمقراطي في جانفي 1992، وتم تأميم الوظيفة الإعلامية وتكميم، بداعي الظرفية القاهرة وعدم المساومة في الدم، فنكِّل بالإعلام وقُتَّل الإعلاميون، وتم تجفيف منابع أو مصادر الخبر لدواع أمنية، وبذلك حرم المواطن من حق معرفة ما كان يجري خارج الخطاب التعبيئي للسلطة المجهزة على المسارين.

هكذا اتجاه ومسلكية خاطئة من النظام في التعمية والتكميم الأمني لوظيفة الإعلام، هي من جرت عليها الأسئلة الكبرى حول ما عرف بالعشرية السوداء وملابسات القضايا والملفات الكبرى التي لفها الغموض ولا يزال إلى يوم الجزائريين هذا، حول طبيعة القتل بين القاتل والمقتول، حول ما نتج ونفذ من الاتفاقيات مع المؤسسات النقدية التي جرت إذ ذاك، حول خوصصة المؤسسات العمومية التي بناها الشعب ومنحها بالدينار الرمزي، تكميم وتعمية رسمهما قانون المصالحة الذي دق اسفينا في نعش الحقيقة، ومن جهة ثانية فتح أبواب الفساد على مصرعيها دام مدة عشرين سنة عمر نظام بوتفليقة !  ونحسب أن ذلك ما يخيف النظام من التغيير ويدفعه للشبث بالتجميل فقط.

المؤسف هنا، هو أنه لم يتح للتجربة الإعلامية التعددية الأولى الرائدة أن تستعيد نشاطها بعد نهاية طاحونة الحرب الأهلية، وهذا بسبب غزو الاوليغارشية لها، تلك الطبقة التي تشكلت بليل في أثناء مقاومة الشعب لآلة الإرهاب الدموي طيلة 20 سنة، وأصبحت الجرائد ومنبعدها القنوات التلفزية، تنطق بلسان حال مجموعات المال ولا تتصل بحال المجتمع إلا فيما كان له علاقة بمصلحة تلك الاوليغارشية، فصار الفساد ينمو ويتعاظم في ظلمة الفراغ الوظيفي الصحيح للإعلام في غفلة من المجتمع، الذي كان متصلا أكثر بالحالة العولمية التي أتاحها تطور تكنولوجية الاتصال من انترنت وأدوات التلقي الذكية، فأصبحنا مجددا بإزاء تركيب جديد في المشهد ثلاثي الأطراف هاته المرة، إعلام الدولة (العمومي)، الذي بسط بوتفليقة عليه بإرادته وإعلام النظام (الاوليغارشية الجديدة المتحزبة والمستقلة) وإعلام المجتمع المتفتح على منصات البث الفضائي الخارجي.

هكذا تشكل للمشهد كان لا بد أن يتفاعل بقوة مع الواقع السياسي الوطني المرتبط بالظروف الداخلية والخارجية معا، ومع الانهيار النفطي الأعظم بعد ذاك العظيم الذي حدث سنة 1986 وقوض معالم دولة الأحادية، بدأت أستار القاسة الصطنعة تتداعي عن عورات نظام بوتفليقة الريعي، لتكشف زيف مشروعه الوطني وهو الذي كان يعيب على نظام الشاذلي افتقاره وافتقاده للمشروع، فاشتعلت المعركة بين إعلام المجتمع الذي تقوى بمواقع التواصل الاجتماعي  وتحالف إعلام الدولة (العمومي) وإعلام النظام (عصب الاوليغارشية وحزبياتها) فانفجر الشارع منتصرا لأطروحة الإعلام المجتمع الشباني فسقط بوتفليقة ودخل جل رجالات العصب والعصابات السجن، لكن هل حسمت المعركة بحق، وانتصر وعي الشعب بانتصار قوة إعلام المجتمع على منصات الافتراض (الاعلام الشعبي)؟

مؤكد لا، لأسباب عدة، منها ما هو مرتبط بطبيعة المجتمع ومستوى وشاكلة تكوينه السياسي والإعلامي، ومنه ما يتصل بطبيعة النظام وتطوره العصبي في ما بات يعرف بـ”الدولة العميقة” تلك التي تتحكم عبر شبكات خفية في مصير البلد بشكل مواز أول فعلي مناقض لظاهر المؤسسات الدستورية والسيادية.

فقد استغلت فلول هاته الدولة العميقة التي رُمِز لها في خطاب السلطة الجديدة (قيادة الأركان) بالعصابة، هشاشة الوعي التاريخي الوطني، وليس وعي الواقع الناشئ من إخفاقات مشروع النظام، فصارت تضرب على وتره من خلال استثارة الفرقة الثقافية والاختلاف العرقي والألسني وصراعات النخب الكلاسيكية بين معرب ومفرنس، ما أحدث شرخا مهما قيل حول حجمه وحجم تأثير، قلَّ أم عظم، فإن إنكاره لا يستقيم مع المنطق، لنحضر مهزلة جموح هشاشة الوعي التاريخي الوطني وبداية اكتساحه لوعي الواقع في ردة وارتداد غلي موضوعيين بالمرة تأباهما موضوعية اللحظة الثورية المعاشة، فاختلطت الأمور وتشظت المنابر وسيطر خطاب الجهلة والمتنطعين ولم يعد يُسمع في الغالب سواهم.

فعلى الصعيد الإخباري وبعد تمكن السلطة الفعلية (قيادة الأركان) من ضم كل المحطات الإعلامية التلفزية الخاصة منها والعامة لجهتها، لم تعد ثمة مصداقية لما يُبث من كل المنصات تقريبا ومن الأطراف الثلاث (إعلام الدولة إعلام النظام وإعلام المجتمع) وذلك لكون مصدرية الخبر ومصدريه صار استخبارتيا بامتياز، وإذا كان ذلك مفهوما على صعيد إعلام الدولة والنظام، فإنه في الحالة الحراكية أي إعلام المجتمع بات محل ريبة وعدم فهم، ما أعطى الانطباع في ظل ما كان يذاع عبر اليوتيوب والقنوات الفضائية المعارضة من أخبار تتعلق بفضائح الفساد والمفسدين ومخطط الالتفاف على الحراك وإفراغه من محتواه،  وترشيح هذا وذاك عن النظام، أن ذلك مجرد صدى لصراع العصب والعصابات عبر ومكليها في الخارج الكل يعري الكل، خصوصا وأن الأداء الإخباري هذا كان في منتهى السوء بسبب المستوى الثقافي لهؤلاء الوكلاء المقيمين في الخارج وافتقار جلهم للكفاءة المهنية.

أكاديميا تهاوى مستوى ما يقدم من مادة إعلامية إلى حد من الإسفاف والضعف لم يسبق له مثيل في أي لحظة من لحظات أزمات الانتقال السياسي في الجزائر، فإذا كنا قد عشنا نقاشات عالية المستوى في تجربة التحول السياسي  لما بعد أكتوبر 1988 على منبر سمعي بصري أحادي إذ ذاك، فإننا اليوم نعيش حالة من الإفلاس الأكاديمي في فك شفرات الحراك الثوري الولوج إلى أعماق فلسفته، من طرف أساتذة أكتفوا في الغالب الأعم بالتعليل على حساب التحليل الموضوعي لثورة الشعب الحراكية ومقتضيات التعامل معها شعبيا ورسميا.

أما سياسيا وبعد أن كانت البلاتوهات في بداية الحراك مشتعلة بنقد وانتقاد النظام وأيلولته بالمجتمع إلى الخراب وضرورة الانتقال منه إلى نظام وطني جديد، عاد المدعوون المنتقون بإحكام، في معرض ارتسامهم لثورة الحراك وطلبيته التاريخية التغييرية لممارسة لتضليل بدل التأصيل وفق ما يبتغيه النظام في هاته المرحلة وغاب أو غييب عن هاته البلاتوهات الصوت الآخر صوت الحراك الأصيل ذي المطالب التغييرية وليس فقط التجميلية.

هو إذن، أداء إعلامي إخباري استخباري، في الخبر، تعليلي غير تحليلي في الناقش المعرفي تضليلي غير تأصيلي على مستوى النقاش السياسي، شأن خاطئ إن كان له من أثر على مخاض التحول الكبير الذي يشهده المجتمع، فإنه سيعمل على إطالة الأزمة، كونه سيظل محتبس بالوعي في لحطتها الحالية، لأنه إذا كان لا يمكنه إركاس وعي الناس إلى حقب النظام البائدة الذي فإنه في مقابل ذلك ليحرمها من المضي إلى ما تتطلع في الأفق الثوري إلى غد جديد يطمح إليه ويتأمله الشعب منذ عقود خلت.

بشير عمري

كاتب صحفي جزائري

You may also like

Leave a Comment

Le Quotidien d'Algérie

Tribune de l’Algérie libre

Newsletter

Subscribe my Newsletter for new blog posts, tips & new photos. Let's stay updated!

Nouevautés

@2008 – All Right Reserved. Designed and Developed by LQA