بشرى حدِّيب
أشهدت مرافعة المثقف التاريخية التي كان بطلها الأستاذ فضيل بومالة العلم كله على عمق الحراك وحدة وعيه الثاقبة للغشاوة الكبرى التي جعلها النظام في وعي الناس حائلة الدائمة بين الوطن وتاريخيه وأزمة شرعة السلطة المستديمة فيه والتي اختلقت بفعل إرادة جماعة وجدة المارقة التي لا تزال تدافع عن مصالحها جيلا بعد جيل مصادرة للثورة محتكرة للثروة.
فلقد عرَّ ابن الاستقلال مشاهد الرماد الذي ساد بالقوة في حقل وعقل المواطن الجزائري سنينا عددا، حتى حسب أن قوته وياقوته ليس مما يتصل أساسا وحقيقة باختطاف الشرعية المدنية للحكم في سياق البناء الأول للوطن والوطنية من طرف جماعة امتلكت سلاح النار وافتقدت سلاح النور الذي تكفل بإشاعته الزمن ورعاه نضال الأوفياء الأتقياء الأذكياء من نخب نزيهة ولا يزال هذا النور مع الأسف يُجابه ضد منطق الطبيعة حتى، من قبل الأغبياء.
الأبوية المقيتة
في الوقت الذي لا يزال فيه النظام القديم يبحث في سلات ومسلات العبث عن ترياق يعيد به بناء هرمه الرملي، بعد أن تصدعت أيديولوجيا الوطنية الكاذبة التي اخلط فيها بعد الاستقلال العنف الرسمي بالتاريخ المزيف المحرف، كان المشهد السياسي غير الموازي وغير الموالي أو المصمم داخل مكاتب دراسات الاستخبارات يتصاعد من وحي وعي أجيال تثقفت تفتقت في خيلائها على أفكار جديدة لا قبل للوعي الأمني المتهالك لهذا النظام بها ولا قوة له للقبض عليها واركاسها أو إسكاتها، نعم، تطور الوعي السياسي بفكره ومشاريعه خارج الإرادة المغلقة للتعددية المتطورة داخل النسق الأحادي القديم، لتبين للناس كيف أن العسكراتية التي فُرضت على الشعب فرضا بدعوى عدم وعيه بالقدرة وقدرته على الوعي بالتعايش السلمي الديمقراطي خارج قوقعة الإكراه والإملاء والهيمنة الأبوية غير الشرعية لنظام غير شرعي من أصوله إلى فورعه.
التاريخ المتوقف والمجتمع المتحرك (العسكرة العمياء والتمدين الأسير)
إذن هي عبقرية أجيال استدعت مرة أخرى الإرادة الثورية الأولى التي فجرها جيل نوفمبر بوعيه الوطني المدني الذي راكمه عبر حركة نضالية سياسية ونقابية طويلة وعظيمة، قبل أن يظهر العسكري المراهق في السياسة يدير السلاح عشية الاستقلال إلى صدر الشرعية، بومالة رسم في مرافعته التاريخية بتلاوين اللغة العجيبة ملامح هذه العبقرية الثورية التي تتلقفها الأجيال خارج الإرادة الرسمية لينحت مصطلحا ثوريا حراكيا جديدا قد يفهمه الجميع بغض النظر عن محاصليهم وحصائلهم الثقافية عدا الخاطئين من العسكر وخاضعين له، مصطلح هو أصعب من أي اختراع لسلاح ناري فتاك، (العلمانية السياسية) أي للانشطارية المؤسسية خارج النسق الجدلي الإيديولوجي الذي شجعه نظام الاستخبارات سنة 1989 بين مختلف التيارات تمهيدا لقتل التجربة الديمقراطية بدعوى عدم النضج بعد لحملها والمضي نحو المستقبل تحت ظلالها، كما هو شأن كل الأمم التي قادتها شعوبها وليس نخبها العسكراتية.
ولأن الإنتاج الثوري في فضائه الفكري عادة ما ينتج داخل الأقبية المظلمة والزنازين المغلقة، فإن بومالة لم يشد عن أولئك الذي احتضنتهم الثورات في التاريخ وألهمتهم نورها كي يعيدوا رسم وجهها (الثورة) الجميل للناس، فسألوا التاريخ عن أحسن وأصدق من كتب عن الثورة ورمى السهم في قلب الطغيان هل هم من ينعتون بالأكاديميين المتعالين في أبراج التعليم أو بالأحرى التعليب العالي؟ أم المنخرطين بإرادة الأحرار بفكرهم في طاحونة النضال من أجل الانعتاق وعدم مواصلة الانسحاق في التاريخ؟
بومالة بطرحه لفكرة العلمانية المؤسساتية الفاصلة ليس فقط للسياسي عن العسكري بل للمدني عن الأمني حتى لا يُساء للحرية بوصفها الأداة الوحيدة للوصول إلى شرعية القانون وقانون الشرعية في سير الدولة.
العسكري والأمني لا يتجاوز في أفق نظرته ما هو أبعد من مصالح ذاتية ضيقة، بينما المدني والسياسي أفقه لا حدود له ويشمل العسكري والمدني وكل مكون طبيعي لكيان الأمة، وعليه تظل في هرم البناء المجتمعي تابعية العسكري حتمية وقيادة المدني طبيعية وإلا سيظل المجتمع يتململ ينشد الحركة والسلطة ثابتة خاضعة لإرادة المصالح القديمة لعصابة وجدة.
القشرة الهشة في نظام العسكرة المتخفية أو الغشاء الغبي
مرافعة بومالة عملت على كشف حقيقة لا مجرد ادعاء، مرافقة الشعب في حراكه، أو تحقيق مطالبه بل حقيقة الثورة المضادة التي جسدتها إرادة العسكري مرة أخرى بعد تلك التي فرضها على الواقع سنة 1962 ثم في 1992 بوقف المسار الديمقراطي والسياسي ليؤكد بأن ألم الجزائر في قادة عسكرها الأقدمون والأمل في أن لا يكون القادمون أمثالهم، ويقبلوا بقواعد التحديث المستمر في النسق السياسي للدولة الحديثة المتطور فكرا وواقعا، وهو ما وسمه فضيل بومالة وأصطلح عليه بفضل ثقافته ولغته الفكرية العميقة بالعلمانية المؤسساتية الفاصلة بين عقلين متوازيين، أحدهما عسكري قائم على الائتمار تراتبي أمني وآخر سياسي ناهض على ابتكار مدني تراكمي، والكف عن التضليل بذلك الغشاء الغبي الذي يراد به أن يرى الناس الحقيقة مشوهة حقيقة نظام الواجهة الذي يستعمل دمى مدنية لا تزيد مدنيتها عن اللباس التي تلبس والأقلام التي بها توقع إرادة أسياد الظل.
النحب المنسجنة !
ما يؤسف له هو أن بومالة يفكر حرا داخل السجن وينحت تماثيل رائعة تنطق بصوت الحراك الثوري، في حين تبدو فيه نخب الفكر سجينة خارج السجن، بسبب قيود الجبن وعمى البصيرة الذي أصابها فأعجزها عن أن ترى الحراك من زاوية ما يجب أن تراه بوصفه محطة الأمل الأخيرة للتحول من محتشد الخطيئة الوطنية الأولى التي حُصر وحُشر فيها الشعب إلى فضاء التحرر والانطلاق نحو الآفاق الواعدة، بعض تلك النخب ليست فقط تلام على أنها لم تفكر بل لكونها صارت تكفر وتكسر إرادة الحراكيين بدعوى أنه بلا مشروع ثوري مع أن الثورة هي التي تصنع المشروع وليس العكس، فكل المشاريع التي سبقت الثورة أكل بها واضعها ثورتهم كما كان يأكل الإنسان صنمه إلهه حتى قال أبرز ضحاياها مقولتهم الشهيرة (الثورة تأكل أبناءها) .
بشرى حدِّيب
صحفية جزائرية مقيمة بفرنسا