العالم يتقلب سعيا من حكومته الخفية كي ينقلب من مرحلة الرأسمالية النموذجية في تاريخ الإيديولوجيات وتدافاعتها إلى الرأسمالية المستبعدة للدولة الكلاسيكية المستعبدة للمواطن العولمي، في حين يصر جنرالات الجزائر على أن يظل منطق الغنيمة الذي اختطفوا بسببه الدولة وبه صادروا استقلال الوطن وحرية المواطن، هو السائد والسيد الذي على الأمة أن تمضي عليه حفاظا على امتيازاتهم وسيطرتهم على خيرات الشعب، ثم تأتي الببغاوات من مرتزقة الإعلام التي اعتادت الأكل على بقايا موائد الضباع لتبرر وتبلبل عقول الناس بتحاليل حائلة في مضمونها دون أن يأخذ المنطق مجراه في معركة الوعي التي من الضروري كسبها كي يربح الشعب معركة البناء الصحيح وإبطال أكذوبة التصحيح الثوري الذي لم يكن لا تصحيحا ولا ثوريا لأنه لم يتصل أصلا لا روحا ولا فلسفة بمنطق ثورة 1954 وبيانها الشهير.
في ديوانه الرئاسي الذي أُسكنه بالقوة الشتاء الماضي من طرف قايد صالح، استمتع تبون كثيرا حين استمع إلى أصداء نفسه من خلال أسئلة شيوخ بأقلام جافة استحالت إلى (جيفة) أقلام لا تسيل إلا لتسلية مصادر رزقهم أو هكذا يعتقدونهم، يحدثهم عن مشروع ثورة اقتصادية ودواوين للتنمية وصناديق للدعم والبلد يتهاوى من أثر الانهيارات العولمية، ووعي شبابه لا يزال متصلا ;متعلقا بالحراك التحرري الذي يقود البلاد إلى وضع حد للوصاية العسكرية على مصير الأمة.
أي الثورات هاته التي يمتلك نظام، عاش نصف قرن ونيف مكبلا بعقده وتعقيداته التاريخية بعدم جريمة السطو على الشرعية عشية الاستقلال عبر جماعة وجدة وغارديمو، أي الثورات يمكنه إحداثها وهو المتخم بأكاذيب الثورة والتثوير الخطابيين؟ أي الثورات بمقدوره القيام بها وهو الذي استهلك كل عقوله الانتهازية وخلط كل النماذج الاقتصادية والاجتماعية من اقصى اليسار إلى اقصى اليمين إلى حفرة الوسط، وخبط خبط عشواء في مضمار الصراعات الإقليمية كلف بها البلد خسائر مالية كانت ستنقل التنمية نقلة نوعية فيما لو أدارتها عقول الأمة غير الملوثة بغبار ودمار ودماء الانقلابية الدائمة التي سار عليها النظام؟
فواضح الآن أن تبون الذي جيء به ليخدم ما تبقى من جيل الاغتصاب للسلطة، قد وجد نفسه داخل مؤسسة عسكرية تختلط فيها الأهواء.. تتصارع فيها العصب تتقاتل فيها الزعامات منذرة بشر مستطير للعسكر في ظل نهاية الهرمية الكاريزمية التي بنى على أنقاذها بومدين الجيش بعدما تمرد على روح الاستقلال وشرعية دولته واستعان بمن خدموا الجيش الفرنسي لضرب من قاوموه، ليتضح أن الجيش اليوم في حافة نهاية إيديولوجية التحرير وانطفاء وهج وطنية الثورة الأولى صار يحتاج إلى معنى آخر يبرر وضعه وهيمنته على ميزانية الدولة بلا حرب داخلية (بعدما أبطل الوعي الشعبي كل محاولات خلط الأوراق كما فعل جنرالات فرنسا سنة 1992 حين أدخلوا البلاد في حرب أهلية ضروس) ولا حرب خارجية ليس أحد من المحيط الدولي والاقليمي مستعدا لها في ظل الانهيارات الاقتصادية الكبرى، فقدوم تبون إنما يندرج في سياق المؤامرة على الحراك التي قادها قايد صالح، كونه لم يكن يمتلك من برنامج يمكنه من نقل الجزائر إلى (الجمهورية الجديدة) وهو الذي كان يقسم بعظمة لسانه أشهر قليلة من قبل الحراك بأن برنامج الرئيس بوتفليقة (برنامج الجمهورية القديمة) لن يتوقف، ولا أدل على ذلك من لجوئه على عجل بعد جلوسه على عرش الغولف إلى جمع المتناقضات والمتضادات في الأفكار داخل طاقم حكومي غير منسجم ولا متسق فكريا (ثوريا) و على صعيد الرؤى، ففرحات آيت علي الذي في قلب الحراك كان يعتبر تبون النقيض الفعلي لدولة القانون هو من استعان به هذا التبون نفسه كي يهندس السياسة الصناعية للبلد ! عفوا للجمهورية الجديدة وأولى أفكار فرحات كانت (بوسع العسكر أخذ مصنع الحجار) !
وفي هذا الخضم القاتم من الحجر السياسي الذي اندفنت في ظلمته الطبقة السياسية وأحزابها العاجزة العجوزة مذ انتفض الشعب في حراكه المبارك، وتجلي ثقب الأزون فادحا بفراغه في المشهد السياسي الوطني، لم يعد بوسع النظام سوى العودة إلى آلياته الاستخباراتية الأولى وبالتالي العودة إلى الممارسات البائدة في ملأ الفراغات القاتلة التي كان يتسبب هو بذاته فيها من خلال جلب أسماء تكونت في مدارس القوات المسلحة لتعيد صياغة الكذب وفق العقل العسكري لمجتمع تقيأ العسكراتية ويطالب بحرية المجتمع كي يصل هذا الأخير إلى تحرير قدراته وبناء طبقة سياسية جديدة خالية من النزعة الانتفاعية والزعاماتية الخادمة للسلطة الفعلية، ما سيتيح للعقل السياسي الوطني من انقاذ الأمة وسط معركة المعنى والوجود الذي دخلته الدولة الحديثة التي تطورت وفق الانهيارات الكبرى التي حدثت ولا تزال على مستويات فلسفية وتطبيقية آخرها ما هو جار الآن تزامنا مع الجائحة العظمى التي لا يزال الجدل قائما حول حقيقتها وما سيؤول إليه العالم بعد مضيها.
لكن غباء النظام وسوء تقديره للواقع وقصر نظر أزلامه ووسائله البشرية الضعيفة التي يستند عليها لا لكسب معركة الدولة العولمية بل لكسب معركة الحراك، كل ذلك جعله يظهر بمظهر اللا مروءة وبكل صفات الجبن والخسة وهو يفرغ وسعه في زمن الجائحة للانتقام من الحراك ورموزه ومحاولة الانتهاء منه عبر اعتقال الناس واستعمال القضاء كما أوراق المراحيض للنيل من روح الحراك وطاقاته البشرية المحركة، في أضعف مؤشر على صدقية ومصداقية الجزائر الجديدة التي يخاطب بها تبون بقايا صحفيين اتضح أنهم شأنهم شأن الطبقة السياسية المستهلكة وجنرالات الوطنية الأولى بات عليهم الذهاب إلى التقاعد وانتظار النهاية البيولوجية.
بشرى حديب
صحفية جزائرية مقيمة بفرنسا
1 comment
الله تعالى يعطيك الصحة و يحفظك يا أختي
بشرى حديب