https://www.alquds.co.uk/
15 nov 2020
ناصر جابي
هذا ما حصل بالضبط بعد وفاة الرائد بورقعة يوم 4 نوفمبر الجاري، حين أعلنت وسائل الإعلام الرسمية عن دفن الفقيد في مربع الشهداء بمقبرة العالية، كما جرت العادة بالنسبة لكبار الشخصيات والرسميين. خبر كذبته عائلة الرجل على الفور، اعتمادا على وصية يكون قد أوصى بها أثناء مرضه، مفادها رفض الدفن في العالية، التي فضل عنها مقبرة سيدي يحيى الشعبية. كما قرر قبله الكثير من وجوه ثورة التحرير والحركة الوطنية، من أمثال عبد الحميد مهري وسعد دحلب وغيرهما.
بدل الجنازة الرسمية في مقبرة العالية، قرر بورقعة، أن يدفن بمقبرة سيدي يحيى الشعبية، التي تحولت اجواءها إلى ما يشبه المسيرة الشعبية. وكأن الرجل يؤكد من خلالها وفائه لمسيرته الطويلة في النضال وهو يقاوم منذ سنوات الاستقلال الأولى، ما اعتبره اغتصابا للسلطة من قبل جيش الحدود في 1962. وهو يشارك في انقلاب الطاهر الزبيري، ضد بومدين في شتاء 1967، وهو يتقرب من المعارضة في الخارج، بعد مشاركته في تكوين أول حزب سياسي معارض، بعد الاستقلال مباشرة – جبهة القوى الاشتراكية.
مواقف كلًفت الرجل حكما بالسجن لمدة ثلاثين سنة، لم يقض منها إلا سبع سنوات في نهاية الأمر، تعرض فيها إلى شتى أنواع التعذيب، من رفاق السلاح. استفاد بعدها من عفو رئاسي أمضاه الرئيس هواري بومدين بمناسبة الذكرى العاشرة للانقلاب الذي أوصله إلى الحكم ضد بن بلة. عاد بورقعة إلى السجن لمدة قصيرة في 2019 بتهمة إهانة هيئة نظامية، تهديد واضعاف الروح المعنوية للجيش، هو رائد جيش التحرير وأحد قيادات الولاية الرابعة التاريخية، بعد مشاركة نوعية في الحراك الشعبي، قربته كثيرا من الشباب، اتخذ خلالها مواقف نقدية من الأوضاع التي وصلتها الحالة في البلاد، وهي تعيش حالة مخاض سياسي عسير. رفض بورقعة أن يدفن بالمقبرة الرسمية، بالقرب من وجوه تاريخية معروفة، يمكن عده آخر معركة سياسية رمزية للرجل، الذي كان من الشخصيات التي رفضت الصفقة التي اقترحها بومدين على قيادات الثورة بعد الاستقلال، مفضلا الخروج العلني للمعارضة بمختلف أشكالها، كلفته غاليا، كما جاء في مذكراته «شاهد على اغتيال الثورة» التي تحدث فيها عن تجربته في السجن ومعاناته من التعذيب، بعد استقلال البلاد بفترة قصيرة 1967/1975.
صفقة اقترحها بومدين على هذه الوجوه التاريخية، التي نافسته بشرعيتها التاريخية الكبيرة، الاقتراح الأول والأكثر سخاء فيها، هو القبول بمنصب سياسي بالقرب من بومدين، حتى لو كان ثانويا ومن دون إشعاع، كما حصل مع الوجه القيادي رابح بيطاط، من مجموعة الست المفجرة للثورة – وزير دولة مكلف بالنقل – وقايد احمد، كمسؤول في جهاز الحزب المغيب، لغاية انشقاقه، والبعض من الوجوه الأخرى التي قبلت بسلطة بومدين ولم تنافسه في شرعيته، لا سرا ولا علانية. في حالة الرفض يكون الاقتراح الثاني المتمثل في قبول مناصب شرفية لا قيمة سياسية لها، بعيدة عن المجال السياسي، كما حصل مع شخصيات تاريخية معروفة، مثل عبد الله بن طوبال، عضو مجموعة 22، ووزير الداخلية قبل الاستقلال، الذي قبل بمنصب رئيس مدير عام لشركة الحديد والصلب، اختفى أثرها تماما عن الأنظار لغاية وفاته في 2010. منصب شرفي قبل سعد دحلب وزير خارجية الحكومة المؤقتة، بما يشبهه، على رأس شركة الصناعات الميكانيكية، لضمان بقاء هذه الشخصيات تحت المراقبة بعيدا من مراكز السلطة الفعلية، لكسب ولائها وعدم تدخلها في الشأن السياسي، وكان بومدين مقتنعا، بفكرة أن الذي حرر البلد لا يصلح لبنائها بالضرورة. الاقتراح الآخر الذي قدم لبعض الوجوه التي رفضت هذه المناصب الشكلية، بشقيها السياسي والتسييري، كان المال العمومي، الذي يمكن الحصول عليه على شكل قروض سخية من البنوك العمومية، بأمر من صاحب القرار الفعلي.. بومدين نفسه. اقتراح قبل به البعض، ممن توجهوا إلى تكوين شركات خاصة، والحصول على ثروة تبعدهم عن الثورة، كما كان يقول بومدين في الكثير من المناسبات، وهو يتحدث عن الفصل بين المال والسياسة، في الجزائر التي أراد بنائها، كان أول من طبقها على نفسه.
تهميش سياسي لوجوه تاريخية وصل إلى مرحلة التغييب الكلي والمراقبة الدقيقة التي تأخذ أشكالا عدة
لم يبق أمام الكثير من الوجوه التاريخية الأخرى، في حالة عدم القبول بالمنصب السياسي الشكلي، ولا الموقع الريعي الشرفي، إلا الدخول في مرحلة التهميش والنسيان، بالابتعاد الكلي عن الساحة السياسية، كما حصل لسنوات مع الوجه التاريخي المعروف عبد الحميد مهري -عاد للتعليم كمعلم بُعيد الاستقلال ومسير لدار المعلمين لاحقا – على غرار العديد من الوجوه المشككة في شرعية بومدين وأعضاء مجموعة وجدة، كما كان حال الكثير من المركزيين، ووزراء الحكومة المؤقتة والشخصيات التاريخية المعروفة، بمن فيهم عراب بومدين نفسه، العقيد بوصوف أب المخابرات الجزائرية، الذي قرر الاهتمام بمصالحه المالية والإكثار من الإقامة في الخارج، حتى لا يشوش على النظام الذي عرف بحدسه المخابراتي القوي أنه قد ابتعد عنه نهائيا، من دون رجعة، بعد الاستقلال مباشرة.
تهميش سياسي لوجوه تاريخية، وصل إلى مرحلة التغييب الكلي والمراقبة الدقيقة التي تأخذ عدة أشكال، كمنع أي حضور إعلامي أو اجتماعي عام، جعلت الكثير من الأجيال الجزائرية الشابة، تتيقن أن هذه الوجوه قد التحقت بالرفيق الأعلى، في حين أنها كانت حية ترزق لسنوات، بعد وفاة بومدين نفسه. وصل فيها هذا الشكل من التهميش إلى النفي والمكوث في الخارج لأوقات طويلة، كما حصل مع محمد بوضياف وآيت أحمد.. وإذا تأكد لبومدين ونظامه أن كل هذه الاقتراحات قد تم رفضها، من قبل هذه الوجوه التاريخية، يتم اللجوء أخيرا إلى العنف، كحل نهائي، قد يصل إلى الاغتيال، كما حصل مع كريم بلقاسم ومحمد خيضر، بعد محاكمات شكلية، تغيب فيها ادنى المواصفات القانونية.. خيار على قلته، كان حاضرا على أرض الواقع بالنسبة لبعض الوجوه التي عارضت النظام بشكل مكشوف من الخارج، بعد مغادرتها التراب الوطني. نظام لم يترك للمعارضة الكثير من أشكال التعبير السياسي الحر، تم الاستعاضة عنه باللجوء إلى الرمزية السياسية كمقاطعة حضور اللقاءات الرسمية، أو الإقامة في الخارج، بما يشبه المنفي الذاتي، كما كان الأمر مع شاعر الثورة الشاعر مفدي زكريا، مؤلف كلمات النشيد الوطني، أو رفض الدفن بالقرب من رموز النظام، الذين اختصرناهم في بومدين، كممثل لهذا الحكم السياسي، الذي قاد حروبا شرسة حول الشرعية، انطلقت مباشرة بعد الاستقلال، ضد الكثير من الوجوه السياسية والعسكرية التاريخية، التي قادت ثورة التحرير.
*كاتب جزائري