Redouane Boudjema
· !لم أصادف طول حياتي الجامعية _ودون أية مبالغة_ أستاذا اجتمعت فيه الصفات التي اجتمعت في الأستاذ الراحل زهير إحدادن، فهو المؤرخ ومن صناع التاريخ، وهو المناضل والكاتب، الذي لا يتحدث عن ماضيه الثوري لا في مدرجات الجامعة ولا في منابر الساحة العمومية، لأنه لم يرد أن يكون له وجودا بمآثر الماضي، ولأنه لم يكن يسعى ويجري خلف المناصب والمكاسب كما يفعل غيره، كان زاهدا في الدنيا و طاهرا في تعاملاته، لا يحمل غلا ولا حقدا، لكنه يكره الجهل مصدر كل المصائب والمتاعب والشوائب.
مؤرخ الصحافة الرافض للقراءة الاستعمارية للتاريخ.. عرفته لأول مرة عام 1990، أستاذا لتاريخ الصحافة في الجزائر، كانت محاضراته شيقة وكنت أقول بأنانية الراغب في المعرفة والفضولي الذي يريد أن يعرف كل شيء دفعة واحدة: « ليته يكمل ولا يتوقف حتى وإن انتهى زمن الحصة »، كان يتحدث في التفاصيل الدقيقة لصحافة الحركة الوطنية بمختلف توجهاتها بعربية جميلة تنسيك لغة الخشب التي ألصقها تجار الوطنية والعروبة بلغة القرآن، كان له موقفه وهو الذي كان راديكاليا استقلاليا في خلايا حزب الشعب الجزائري، لكنه كان يفرق بين تدريس التاريخ ومواقفه السياسية، لما وصل للحديث عن جريدتي « المقاومة » و »المجاهد »، تحدث عن كل التفاصيل، وذكر كل الأسماء ولم يذكر اسمه، ولم أعرف تفاصيل علاقته بالجريدتين إلا سنوات بعد ذلك لما توطدت علاقتنا، ولاحقا أصبح مشرفي على أطروحتي الماجيستير والدكتوراه، وكنت استغل هذه المواعيد لنتبادل أطراف الحديث حول بعض المسائل الفكرية والثقافية والتاريخية وحتى السياسية في أحيان أخرى.
كان الأستاذ عالما وعارفا بثلاث لغات، كان يتقن اللغة العربية دون أن يتاجر بها، ويتقن الفرنسية لكنه رافضا للاستغراب والاستلاب ومقاوما للقراءة الاستعمارية للتاريخ، ومتحدثا جيدا بالأمازيغية التي تعلم منها وبها فقه الدين والدنيا، كان الأستاذ متدينا لكنه رافضا للغلو والتطرف والنفاق الديني، وهو الذي لم أشاهده يوما يظهر تدينه في حرم الجامعة. تواضع التواضع.. ما أجمل تخليد أسماء العظماء الذين عملوا على تعظيم المتواضعين، لأنهم علماء يتواضعون ولكنهم طول حياتهم يعظمون المتواضعين الذين لا يظهرون لأن خلقهم قرآني عنوانه « أغنياء من التعفف » وتشبت وإخلاص للمبادئ وقسم التحرر من الولاء للسلطان والطغيان.. احدادن وبالرغم من أنه كان بإمكانه الحصول على الكثير من المناصب غداة الاستقلال إلا أنه رفض ذلك، بل وفي السنوات الأولى من الاستقلال غادر العاصمة باتجاه قريته بتوجة في بجاية ليعيش من عمل الفلاحة رفضا لمساندة مسار سياسي لم يكن مقتنعا به..
كان الأستاذ يرفض كل تكريم وهو حي، كان دائما يرد علينا وعلى غيرنا: « أنا لا أحتاج إلى أي تكريم، أنا لم أقم إلا بواجبي ».. ورغم كل ذلك كنت أتمنى أن يتم تقديره، ليس بتكريمه وهو على قيد الحياة في المحيط الجامعي الذي أعطاه كل حياته فحسب، لأن تقدير أمثال إحدادن وهم أحياء لا يقل أهمية عن كل ذلك.. أكتب ذلك وأشدد عليه، لأنني عشت العديد من المواقف التي شعرت أنها جرحت الأستاذ، لكن كرامته الانسانية وتواضعه الذي هزم التواضع، جعله يكظم الغيض، وكانت خمسة مواقف، لا يسمح المقام اليوم إلا بذكر ثلاثة منها.. وثيقة إدارية عنوانها » الإساءة ».. الموقف الأول كان في نهاية أحد المواسم الجامعية، في نهاية ماي من عام 1996، كان الأستاذ قد تقاعد، لكن نقص التأطير وغياب أستاذ مؤهل لتدريس مثل هذا المقياس جعل المعهد يطلب خدماته، وقد قبل ذلك مقابل ساعات إضافية يحصل عليها الأستاذ تقدر قيمتها السنوية بـ 14ألف دينار تدفع في شهر جويلية عادة، في الوقت الذي كانت الجامعة تدفع أجور بعض الأساتذة المقيمين في الخارج بحجة فضفاضة « تهديدات أمنية »..
في منتصف شهر جوان وبعد الانتهاء من الدروس طلبت مني سيدة فاضلة وهي مسؤولة الموظفين في المعهد، أن أتصل بالأستاذ إحدادن من أجل إحضار وثيقة إدارية حتى يتم صب مستحقاته، وهي « شهادة عدم العمل »، لأن المراقب المالي طالب بذلك، ذهبت في صباح اليوم الموالي إلى بيت الأستاذ لأن الظروف الأمنية المحيطة بالأحياء المجاورة لحيه كانت لا تسمح بزيارته عصرا، بعد تبادل الحديث عن البحث ونهاية السنة الجامعية وظروف البلد، فاتحته في الموضوع الذي جئت من أجله وأنا أتلعثم من الخجل، أتذكر أنه استغرب الأمر، وقرأت من عينه استهجانا بسلوك الإدارة وقوانينها التي لا تعرف أصلا من أصول فلسفة القانون وهو المرونة في التطبيق، لم يكثر الكلام وأجابني بالحرف الواحد: « يا سي بوجمعة قل للموظفة أنه لا يمكنني في هذه الظروف أن أصطحب معي شاهدين إلى البلدية ليشهدوا أنني لا أعمل، قل لها ما فيها باس هاذوا ولادنا، ولاد الجزائر، والأستاذ إحدادن تصدق بهذه السنة »، وبقيت هذه الكلمات تتردد في أذني إلى اليوم، وقد كانت آخر سنة درس فيها الأستاذ في الكلية، وبالرغم من ذلك كان يستجيب لكل دعوات الطلبة لتنشيط المحاضرات، لأنه كان يشعر بواجب ايصال شيء ما للشباب..
بريد من بن عكنون إلى حسين داي يستغرق أكثر من سنة! الحادثة الثانية في أكتوبر من عام 2000، وفي بداية السنة الجامعية، وأنا أنتظر في سكرتارية مدير المعهد، انتبهت لوجود ظرف ضخم مرمي في الأرض، أبيض اللون تحول لونه إلى بني داكن من كثرة الغبار وخيوط العنكبوت، كان الظرف يحمل اسم الأستاذ زهير إحدادن، سألت السكرتيرة مباشرة: متى وصل هذا الظرف من الجامعة المركزية؟ قالت منذ أكثر من 3 أشهر، ثم سألتها لماذا لم يتم إرساله إلى بيته؟ سكتت لأنها لم تكن تملك جوابا ولا قرارا.دخلت عند المدير الذي رد على صدمتي بابتسامة الشخص الذي لا يشعر أنه مذنب، قلت له سأوصل الظرف اليوم، ذهبت من المعهد مباشرة إلى بيت الأستاذ، فتح الأستاذ الظرف وتبين أن الموضوع يعود لأكثر من سنة، وأن جامعة سعودية كبيرة راسلت الأستاذ ليقوم بتحكيم أعمال أستاذ سعودي في الإعلام من أجل ترقيته لمصاف الأستاذية، رد فعل الأستاذ إحدادن كان يحمل الكثير من الغضب، لكن حيرته وغضبه لم يكن لهما علاقة بالتأخر في حد ذاته ولا بالمستحقات التي كان سيحصل عليها من العمل، لكن كلمني عن كيفية تبرير عدم القيام بالمهمة لدى الجامعة السعودية، فالأستاذ لم يكن يريد القول إن مصالح البريد لم تقم بعملها أو أن الجامعة لم تحترم مقامه… شرف المجلة من شرف الأستاذ..
الحادثة الثالثة تعود إلى نهاية عام 2003، وعلى علاقة بالمجلة الجزائرية للاتصال، وقد كان أول قرار اتخذ وبرز من قبل عمادة الكلية الجديدة وفي العدد الذي صدر في نهاية ديسمبر 2003، هو نزع اسم أ. د. زهير إحدادن كرئيس شرفي لهذه المجلة العلمية وتعويضة باسم رئيس الجامعة آنذاك الطاهر حجار، ولما زرت الأستاذ في بيته لأتناقش معه حول مقال علمي صدر لي في العدد ذاته، وعندما بدأ يتصفح المجلة شعرت بما شعر به الأستاذ وفاتحته في الموضوع، وشرح لي بعض الخلفيات، لكنه قال لي « لا يهم وجود اسمي بقدر ما يهم أن تستمر المجلة في الصدور »!! الخوف من قتل الجامعة !!هذه المواقف الثلاثة رغم ما تحمله من لؤم وإنكار لحق الإنسان، تبرهن أن الأستاذ وطول مساره لم يكن يبحث عن تشكيل زمرة أو خلق أتباع أو مريدين، وكان يكظم غيضه لأنه كان لا ينتصر لنفسه ولا لشخصه، وحتى قبل ثلاثة أيام من موته، لما زرته يوم 17 جانفي 2018 بالمستشفى وبالرغم من متاعبه كان أول سؤال له: « ما هي أحوال الجامعة؟ »، لأنه باختصار مجاهد مخلص، ومثقف محترم، وجامعي عاش حياة الزهد والطهر ونكران الذات، وكان يفكر في وضع الجامعة وهو في سرير الموت لأنه كان يعرف أن قتل الجامعة هو قتل لفكرة الدولة ولاستمرارية الأمة..
2021 الجزائر في 20 جانفي