إذا كان الفكر السياسي لا يزال ينظر في أصل وطبيعة الظواهر التي كونت السياسة كنشاط وضرورة انسانيتين تفرضهما حالة الوعي بالوجود باعتبارها خاصية بشرية وحدها من دون الخلائق الأخرى، فإن الترف الفكري الممارس أحيانا من بعض الأطراف يحيل مثل تلك الجهود أو يسعى إلى تحويلها إلى مجرى أو مجرف أخر بحيث تتعثر وتتبعثر كل جهود القبض على الحقيقة التاريخية في السياسة والحكم بصفته أبرز قضاياها الشائكة.
في السياق هذا، لفت انتباهي وأنا اتابع أرشيف الفيديوهات القديمة في الفضاء الأزرق، الاشتباك الذي حصل سنة 1985 بين الكاتبين الفرنسيين الكبيرين جون دوميرسون وجون دانيال في حصة “أبوستروف” التي كان ينشطها الكاتب والصحفي الشهير برنارد بيفو وذلك على هامش محاورته للكاتب الروسي الكبير فلاديمير سولجنستين، أين اعتبر جون دنيال رؤية سولجنيستين حيال الغرب خاطئة وأن كفاح الكاتب يجب أن يرقى إلى ما فوق تحقيق المطمح الأيديولوجي، كالكفاح ضد الاستعمار وضد الرأسمالية المتوحشة وضرب مثلا حول ما رآه في الجزائر التي ولد فيها والشيلي في مقاومة نظام بينوشي الغاشم وحتى نظام ستالين الحديدي الأحادي، وهو ما رفضه جون دوميرسون رائيا أن المقارنة بين بينوشي طاغية الشيلي وستالين ديكتاتور الاتحاد السوفياتي سابقا، غير مؤسسة وغير سليمة، فقط لأن “ديكتاتورية بينوشي” حاجة اقتضاها الحال في الشيلي لتجنيب الشعب في هذا البلد الأحادية والفكر المُعلب، أي أنها شر لا بد منه، بينما ديكتاتورية ستالين لم تكن حاجة بل كانت غاية في ذاتها.
هاته المشادة ذكرتني بأخرى سبق وتابعتها في احدى القنوات الفرنسية وهي تستضيف الكاتبين العربيين المغتربين طارق رمضان المصري – السويسري وعبد الوهاب المؤدب التونسي – الفرنسي، إذ نافح الثاني عن عهد الحبيب بورقيبة واعتبره زعيما سياسيا حداثيا وتحديثيا لتونس، ما استفز طارق رمضان على اعتبار أن التحديث غير المادي هو أصل كل حداثة، من هنا رأى بأنه على الصعيد السياسي لم تتميز تونس عن غيرها من دول العالم الثالث وعاشت تحت ديكتاتورية رجعية سوداء، الأمر طبعا لم يستسغه الكاتب العلماني عبد الوهاب المؤدب واعتبر أن التحديث كغاية يبرر الديكتاتورية كوسيلة !
من هنا تجلى السؤال العميق هل يحتاج حقا الانسان السياسي الديكتاتورية ليجسد رؤاه؟ وهل ثمة ما يبرر مثل هذا الخيار؟ وما قيمة الحرية كقيمة مثلى وعليا في ظل هكذا ترف جدلي فكري؟
طبعا كل الازمات التي مر بها المجتمع الإنساني لما بعد التنوير والتحديث والتصنيع تمضي باتجاه الإجابة عن سؤال واحد لا ثاني له “أي الانسان حرا؟” ومن خلال هاته الصيغة الغريبة للسؤال، التي تروم تقصي النموذج الافتراضي، يتضح أن المشكل يتجاوز نطاق المفاهيم الفلسفية بل يصل إلى حد التمركز الثقافي والحضاري كمعيار لتحديد وضبط هاته المفاهيم، وليس لذلك من معنى أكثر من أن البشرية لا تزال غارقة في اكتشاف ذاتها ومعاودة ترتيب معاني وجودها وفق رؤى ليس بالضرورة تنزع عن معتقداتها ومنطلقاتها الفكرية الايديلوجية والاثنية حتى.
ومثل هكذا انشطار واندثار للمرجعية التي قيل أن العقل الخالص وحده المُخلِّص والقادر على توليدها، يكون بوسعها الاسهام في تثبيت القيم الانسانية السياسية الأساسية كالحق والحرية سيظل المعيار ذاتي للقيم هو أساس الاحتكام وضبط التصور، فديكتاتورية بينوشي دواء عند دوميرسون، وهي غير ذلك عند جون دانيال، وطغيان بورقيبة الأحادي هو الوسيلة الوحيدة لتحديث وعلمنة المجتمع العربي ولو على حساب قدسية الحرية الفردية والجماعية عند عبد الوهاب المؤدب، وتصور الأمر بهكذا رؤية اجتزائية وانتقائية رآه طارق رمضان مصيبة ليس فقط على واقع العرب بل واقع العقل.
إن أخطر ما يصاب العقل البشري هو المنزع المرضي المثالي، والفئة الأكثر عرضة له هي نخب “الترف الفكري” التي لمجرد اعتناقها لمذهب ورؤيتها لحلم مثالي تدوس ليس فقط على الواقع بل سلم القيم ولا تقيم وزنا لأي حد أو أحد قد يقف في سبيل تجسيد طموحها أو غايتها وبأي وسيلة.
في الجزائر مثلا لم تفتأ نخب “الترف الفكري” هاته تتضارب وتتلاعب لا حول ثابت القيم الإنسانية في السياسة، كالحرية، والحق في المواطنة والعمل المؤسساتي، بل حول ضرورة منع الحرية والحق ولو بتكسير المؤسسات، فقط لمجرد الاختلاف الأيديولوجي والفكري، ولتعاليها على وعي المجتمع بهكذا قضايا، متحالفة مع كل قوى وسلط التكسير لإرادة المجتمع الذاتية في التطور، وهو ما زج بالبلاد في أتون مآسي وحرب طاحنة أتت على الأخضر واليابس وعطلت تطور المجتمع والدولة معا.
إذن واضح اليوم هو أن أصحاب المصالح الكبرى صاروا يوظفون اختلالات العقل السياسي وانهيار سلم القيم ومعيار المفاهيم من أجل تأجيج الخلافات في الواقع وبالتالي تبرير القرارات التي تستهدف الاستيلاء على مصير المجتمعات والدول، فتتحول الديكتاتورية إلى دواء والحرية إلى داء وظيفيا في العقل النخبي الثمل بالمثالية الوهمية التي تقلب بينوشي من طاغية إلى نبي مخلص للشيليين من طغوى الشيوعية عند جون دومبرسون، وبورقيبة بحكمه الشخصي الأحادي إلى مهدي التحديث والعلمنة المنتظر في العالم العربي عند عبد الوهاب المؤدب!