تشير الحالة التاريخية لليسار الجزائري باعتباره مهد الوعي بالوطنية الحديثة ومسرح الحديث الوطني في جزائر ما قبل ثورة التحرير، جملة من الأسئلة المتعلقة بميراث هذا التيار ومسار تطور حضوره في الضمير الوطني، خصوصا بعد المآلات التي عرفها في الأوساط النخبية والشعبية، والاخفاقات النظرية والتطبيقية له عي صعيدي الحكم والمعارضة، وتتمحور التساؤلات تلك أساسا، حول الحقيقة التاريخية للاشتراكية الرسمية التي تبنتها نخب الحكم وزكتها المعارضة قبيل وبعيد الاستقلال، وما علاقة الفكري في السياسية بالسياسي في الفكر في الجزائر من ساعة ما صارت فتنة السلطة ترتسم في ساحة الصراع بين مختلف الأطراف؟
في الحقيقة ما قادني للكتابة عن هذا الموضوع (التاريخي ـ الفكري ـ السياسي) هو احساسي بأن التجارب الإنسانية مهما اختلفت الأصول والثقافات ودوائر الانتماء الحضاري، إلا أنها تظل واحدة كونها تنطلق من نوازع وغرائز الانسان المجردة من أي خلفية أيديولوجية أو ثقافية، فالحكم بالمنطق الامبراطوري كامن ومتجذر في الأنفس لا تحده ولا تردعه سوى القدرة الجماعية للأمم إذا ما تسلحت بالوعي الحاد وفرضت ارادتها عبر النصوص القانونية، والعمل المؤسساتي المقدس في السياسة.
ذلك الإحساس انتابني وأن استذكر ما كتبه الزعيم الراحل فرحا عباس في كتابه “الاستقلال المصادر” عن القناعات الاشتراكية لزعماء الوطنية الجزائرية لا سيما أحمد بن بلة وهواري بومدين، نافيا نفيا قاطعا بحكم مزاملتهم وملازمتهم لهما أن يكونا مستوعبين ومعتنقين حقا للفكر الاشتراكي، مؤكدا أنهما انحازا لهذا الفكر، فقط لأنه كان في قمة توهجه العالمي، يمنح فرصة الحكم بالأحادية والزعاماتية الكاذبتين.
والغريب في الأمر أنني وجدت ذات القناعة لدى أحد أبرز مثقفي وقادة الحزب الشيوعي الروماني سيلفيو بروكان Silvui Brucan في شريط تلفزيوني مصور عن مسار الطاغية الروماني نيكولاي تشاو سيسكو حين أكد بأن هذا الأخير “كان ضعيفا جدا في النظرية الماركسية، لم يقرأ رأس المال لماركس، ولا كتابات إنجلز ولينين، بينما كان متمكنا من نقد ستالين للينينية”
فحسب سيلفيو، تشاو سيسكو كان يعطي الأولوية للسلوك السياسي الانتهازي “الستاليني” على حساب المرجعية الفكرية والخط التاريخي لها بما يمكنه من الاستمرار في الحكم عبر خلق خطاب وطني جديد يرتبط بالزعيم أكثر من ارتباطه بالفكرة ويجعل الحزب وسيلته في توهيم وتهويم المجتمع لا أن يبقى الحزب أداة انتاج العقل المفكر والمدبر والمسير للسياسة.
من هنا تبرز مشكلة اليسار في تاريخ مسلكه الثوري العام، أنه استحال إلى مرتع للانتهازية والوصولية وفرض القهر الأحادي، بحجة الوصول إلى مجتمع الجماعة والاجتماع والرخاء الجماعي، قبل أن تكشف سيرورة التاريخ كذب الصيرورة التي بشر بها نبع اليسار.
لكن إذا كان المشترك واضحا هنا في نفي سيلفيو بروكان للفكر اليساري عن الزعيم تشاو سيسكو ونفي فرحات عباس ذلك عن بن بلة وبومدين، فإن المفترق بين التجربتين هو في كيفية التعاطي معهما كمجالين بحث وتدبر باعتبارهما يشكلان حلقتين مهمتين في التاريخ الوطني للبلدين.
إذ في الوقت الذي جُرد فيه نيكولاي تشاو سيسكو من أي صفة اشتراكية وفكرية، واعتبر دكتاتورا حكم البلاد بهوسه الزعماتي على حساب الإرادة الجماعية الوطنية، لا تزال نخب الفكر والسياسة في الجزائر اليوم غير قادرة على هدم وهم المقدسات الوضعية والمصطنع التاريخي، لتفصل وتسوي مشاكل الأمة مع ماضيها لتعيش حاضرها وتستشرف مستقبلها، لماذا كل هذا الترسيخ للطابوهات ولو بمقابر التاريخ؟
الأمر واضح هنا، لأن السياسي طاغي على العقل وعليهما معا طغت القوة، وبالتالي فالزمن متوقف داخل مجراه في البلد لأن التاريخ محتجز ومحترب بشكل مريع جعل الجزائريين يبحثون عن أنفسهم لا من خلال تجربتهم التاريخية الخاصة، بل من خلال الأشخاص والزعماء ومقولات ذاتية مغلقة لا تنفتح عن أفاق.
للإشارة فقط فإن نفي فرحات عباس للقناعة والثقافة الاشتراكيتين عن “الزعيمين” أحمد بن بلة وهواري بومدين، سبق نفي سيلفيو برونكان للفكر الشيوعي اليساري عن تشاوسيسكو، غير أن مدرات الانفتاح وقدرة العقل التوغل في أعماق الإشكالات الوطنية، اختلفت بين نخب البلدين، في رومانيا عقل أوروبي يعقل الوطنية قبل أن يوطن العقل، لهذا تم نزع القدسية عن تشاو سيسكو وتشريح تجربته في الحكم وتفكيك منظومة إدارته للدولة والمجتمع، في حين في بلداننا المحتبسة في تاريخها المحتجزة في مجرى الزمن يجب أن نؤمن بلا عقل بالوطنية! يأخذ الأموات معهم إلى المقابر النياشين والاوسمة ويستمرون في قدسيتهم من تحت التراب! والدليل أن التراث الاشتراكي الوطني غير مكتوب بالشكل الذي يلزم كما وكيفا، في الفكر والتطبيق، في الحكم والمعارضة، لأنه متلبس في التاريخ مع الوعي والضمير الوطنيين، وعندما نقرأ للسير الذاتية والمذكرات لبعض قادة الثورة وساسة الحزب وأحزاب اليسار لا نكاد نلفي أكثر من أقاصيص الصراعات حول الحكم والمناصب والمكاسب أكثر من الحديث عن فشل أو إفشال المشروع الاستقلالي الوطني من خلال أداة “الاشتراكية كخيار لا رجعة فيه”!