رشيد زياني شريف
في اليوم العالمي للصحافة (RSF) »دار لغطٌ كبير حول استقبال تبون للصحفي درارني ممثلًا عن منظمة « مراسلون بلا حدود
واحتدم الجدال بين طرف متفهِم باعتبار أن ما قام به درارني يدخل في صميم مهامه ومسؤوليته كممثل لهذه المنظمة، حاملًا رسالة نيابة عنها، ومدافعًا عن أحد الصحافيين المعتقلين (قاضي إحسان)، وبين من اعتبر هذه الخطوة غير موّفقة، وأنه كان يتعيّن على الصحفي تسليم الرسالة، ثم الانصراف دون حضور مائدة السلطة. لكن بالنظر إلى ما يحدث في البلاد من جسام الأمور، فمثل هذا الجدال هامشيٌ وبعيدٌ عن جوهر ما تدور رحاه خارج هذا اللقاء. فإن كان في هذا اللقاء وملابساته ما يستحق من اهتمام، فهو أنه فرصة أخرى، تُسلط الضوء على مسرح الأشباح الذي تُدار فيه شؤون البلاد، وتكشف مدى تخبّط تبون في شبكة تكاد تشلّ كافة خطواته وتظهره « عاجزًا على تنفيذ ما يعِد به »، بما يُثبت مرة أخرى طبيعة آليات تسيير شؤون الدولة، في ظروف تغيب فيها الشفافية تمامًا، والتضحية في كل مرة بواجهتها بالمرادية، وتدفعها لقمة صائغة تعصف بها الرياح الهوجاء.
دعونا ننظر في الحدث المثير للجدل، حتى نرفع ستار مسرح الأشباح ونفك خيوط الشبكة التي توقِع بتبون، وتجعله يخسر مهما قال أو صرّح أو فعل. كان تبون عند استقباله ممثلي بعض المؤسسات الإعلامية الوطنية، على هامش إشرافه على احتفالية الجزائر بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، انتقد بعض تصرفات الصحفيين الذين يعملون وفق تعبيره بعيدًا عن « روح الوطنية »، وانتقد أيضًا تصنيفات بعض المنظمات غير الحكومية للجزائر، في إشارة إلى منظمة RSF. ونتذكر بهذا الشأن أنه كان قد وصف قاضي إحسان، بأنه خبارجي (أي يعمل لحساب جهات خارجية)، وقبله وصف درارني نفسه بأنه خبارجي وسُجِن على هذا الأساس (قبل أن يُفرج عليه نتيجة ضغوط « خارجية »)، كيف يمكن إذن أن نفسر استقباله مَن وصفه بالخبارجي، ممثلًا عن منظمة RSF التي ينتقدها. هذا الاستقبال من تبون لدرارني وتسلُمه منه رسالة عن المنظمة التي يتّهمها بالتشهير والتضليل، معناه إمّا أنّ تبون كان خاطئًا في اتهام درارني بالخبارجي، ومن ثمّ توجّب عليه تقديم الاعتذار، والاعتراف بأنه تجاوز صلاحياته في تدخّله في شؤون العدالة وتوجيه تهمة غير مؤسسة، وإما أنه كان محقًا في تهمته، ومن ثمّ يُطرح السؤال، ما الدافع أو الضغط الذي مورس عليه لاستقباله رسميًا مَن يصفه بالخبارجي، وتلقّيه رسالة تطالب بالإفراج عن صحفي آخر اتهمه تبون بالخبرحي؟ ثمّ سؤال آخر حول « تخبّط » تبون في مساعيه، كيف يمكن في اليوم الذي يستقبل فيه الصحافيين، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة وإثبات تقدير الدولة للحرية الصحافة، اقتياد صحافي آخر، إلى مقرّ الأمن، ليُساءل عن استقباله ضيوف سياسيين في بيته؟
هل هذا التخبّط معناه أن هناك طرفان نافذان، يتصرّفان في اتجاهين متناقضين، كلٌّ وفق أجندة خاصة به، ينسف أجندة الآخر؟ إن كان الأمر كذلك، فمن المشروع التساؤل عمّن كان وراء قرار استقبال درارني ومَن كان وراء الأمر بالقبض على الصحفي سعد بوعقبة، في ذلك اليوم بالذات، 3 ماي 2023، عندما قضى اليوم العالمي لحرية الصحافة في مقر الأمن بالأبيار، بسبب استقباله ضيوف في بيته.
وفوق ذلك، يُطرح سؤال آخر لا يقلّ أهمية وغرابة، ما تفسير استقبال درارني من قِبل تبون، ثمّ منعه بعد أيام قليلة من مغادرة التراب الوطن لتسلّم جائزة دولية مُنحت له في إسبانيا؟
عند كل خطوة يتّخذها تبون، يبدو وكأنه عالقٌ في شبكة لا يكاد يستطيع التحرّر منها، بعض خيوطها معروفة ومرئية وأكثرها خفي، بحيث كلّما خطى خطوة للخروج من المياه المتحرّكة التي تحبسه، غاص أعمق في الوحل، بما يؤكد أنه لا يملك قرار تحرّكه وتنفيذ وعوده، وقد أصبح مصيره في كفّ عفريت.
هل هناك جهة حريصة وتسعى بكل حزم على نسف كل ما يقوم به تبون، في إطار الصراع بين المؤسستين، الرئاسة والجيش، مثلما كشفه ذلك التناقض الصريح، عقب تصريح تبون لصحفية قناة الجزيرة، عندما قال بأنّ الأمن القومي يقوم على الاقتصاد، فلم يتأخّر ردّ قيادة العسكر، وجاء سريعًا وقاطعًا ومفندًا، في مقالة من مجلة الجيش، تؤكد فيه أن الأمن القومي هي من تقوم به وتضمنه!
هذه الرزمة من المؤشرات والرسائل توحي بعدم رضا قيادة العسكر ورفضها التجديد له، وهي بذلك لا تفوّت فرصة إلّا وتنسف ما يقوم به من مبادرات أو تصريحات أو لقاءات. هل نحن الآن أمام حرب معلنة، بعد أن كانت خفية، ليتجدّد السناريو المعمول به منذ استقلال البلاد « من يأتي بالرئيس هو من يذهب به »، بصرف النظر عن طريقة التسريح، قتلًا أو انقلابًا أو عزلًا، وهم على وشك تنفيذه مع تبون؟
من الجدير التذكير بمصير من سبق تبون.
– ألم يكن العسكر هم من فرضوا العقيد الشاذلي بن جديد لاستخلاف بومدين بعد موته المفاجئ، رغم أنّ المرشحين الأكثر حظًا وتوقّعًا، يومذاك كانا بوتفليقة ويحياوي؟ ومن أنهى مهام الشاذلي؟ أليس العسكر هم أنفسهم، عندما فشلوا في إقناعه بوقف العملية الديمقراطية، وأصرّ على المضيّ قدمًا في الدور الثاني لانتخابات ديسمبر 1991، وإتمام عهدته، أيا كان الفائز في هذه الانتخابات، فتمّ الانقلاب عليه وعلى المسار الديمقراطي برمته، وأدخلوا البلاد فيما يعرفه الجميع؟
– من جاء ببوضياف؟ ألم يكن العسكر، لتوظيف سمعته وماضيه النضالي، والتغطية على الانقلاب، قبل أن ينقلبوا عليه في مشهد دراماتيكي، بقتله على المباشر بعد تأكّدهم أنه بدأ يخرج عن السيطرة؟
– ومن جاء ببوتفليقة من منفاه؟ ألم يكن العسكر الذين راهنوا على مساره الدبلوماسي، لحمايتهم من المتابعة الدولية في فترة كانوا قاب قوسين أو أدنى من المثول أمام قضاء لاهاي، فاستغلّ بوتفليقة الفرص وفرض نفسه عليهم، وأجبرهم على تجديد ولاياته، لأنه كان يملك ضدهم ورقة التسعينات وسيف التهديد بالمحكمة الدولية، باعتباره الضامن لحمايتهم من العقاب، ثم ضحوا به عندما بات الخطر أكبر، ويهددهم جميعا؟
– أما تبون، فلا يملك لا شرعية الشاذلي بن جديد الثورية والعسكرية ولا تاريخ بوضياف النضالي ولا دهاء بوتفليقة، لا يملك أيّ ورقة ضغط ضدهم، فضلًا على أن مَن عيّنه في منصب الرئاسة وحماه، قايد صالح، قد تمّ التخلّص منه 4 أيام بعد تتويج تبون، كما أنّ تبون مُثقل بملفات لا يستطع الانفكاك منها، ويدرك أثرها إن قرّر أصحابها تفعيلها.
لن نخترع العجلة، ولن نغيّر في سنن الكون، إنّ ما ينتظر تبون، نتيجة طبيعية كونية، تنطبق على كلّ من يأتي على دبابة العسكر، أو بتزكيتهم وحمايتهم ودعمهم، بدلًا من أن تقوم شرعيته على خيار الشعب وسيادته ومشروعية الصناديق المعبّر عنها بحرية وشفافية. فلا مفاجأة فيما يشهده اليوم تبون، ولن يلوم إلا نفسه.
في كل الحالات يبدو أن تبون هو الخاسر، مهما فعل، وحتى عندما أراد تبييض بعض صفحات القمع ويظهر في صورة من يصحّح بعض حالات التعسف، لأنه ببساطة، لا يملك أدوات تنفيذ ما يطمح إليه، وليس هو سيد قراراته. هذه الحقيقة، يذكّره بها أصحاب هذه القرارات، عند كل خطوة يخطوها، حتى لا يتيه في أحلام اليقظة، وتحدّثه نفسه لاقتفاء آثار بن جديد أو بوضياف.