بواسطة قسم التحرير
بشير عمري
في أقلام الوسط
https://elwassat.dz/
إذا كانت كل التجارب القومية في العالم المتخلف قد أشَّرت إلى استحالة التغيير وفق نمط المعارضات السياسية وأساليبها في اقناع الشعوب بمشروعها البديل، فإن الأسئلة العميقة المتعلقة بهذا الفشل لتظل متأججة في فضاءات المعرفة السياسية والفلسفية والعلمية، حول، ليس فقط معرفة الأسباب كامنة خلف هذا الفشل وإنما لإيجاد الحلول المثلى لها، أو مقاربتها بما يتيح لشعوب ترزح تحت ويلات الاستبداد الذي صار بتشكل ويعيد تشكلاته وفق تبدلات العصر وتحولات الفكر في السياسة والسيادة معا، مخلخلا منطق الدول وعرف الأمم الذي تطور عبر الزمن وفق نسق عقلاني رهيب عجيب.
فما الذي كرس فشل منظومات المعارضة بمشاريعها الفوقية وخطابها الشعبية؟ وأين يقع عنصر الخلل تحديدا هل في بنية التفكير والتدبير لتلكم النخب وشاكلة مواجهتها للسلط أم بالبنى الاجتماعية وما تملكه أولا تملكه من قدرات في اتباع سبيل تلكم النخب؟
1
بغض الطرف عما يقوم عليه خطاب المعارضة التغييري التبريري في عالم الدول المتخلفة من إرادة سلط الاستبداد في عدم الاعتراف بها والتضييق عليها وتزوير الحقائق والاستحقاقات السياسية، وتكريس ثقافة عدم المشاركة السياسية بالعمل على تعزيز حضور ما يُنعت عادة بالقوة الصامتة، ما يضمن بقاء الوضع القائم على حاله، فإن فشل مشروع المعارضة السياسية في هذه الدول يصدر من أعماق سحيقة في الحقيقة الاجتماعية أو المجتمعية للوطن، حيث يغيب المتلقِّي المثالي لخطاب الاعتراض المنمذج المؤدلج الذي يتأسس على اعتوارات السلطة وليس على اعتبارات اشمل واوسع رؤية.
في الاعتراض السياسي قبل أن يكون فنا في الواقع بكل ما يحتويه من زخم التدافع والتصارع، فهو في الأساس فن التفكير والتنظير وقدرة على بناء الرؤى المثلى التي من خلالها وحدها تترسخ قناعات التغيير وتغدو غير قابلة للمصادرة أو إعادة التوجيه وفق ما ترومه سلط الخطاب الاخر الحقيقية منها أو الرمزية.
2
من هنا يضح أن جدلية الواقع والمثالية بوصفها أساس انتاج البدائل السياسية وصناعة التاريخ، كونها تناظر بين العقل والخيال، هي أكثر من ضرورية في الوجود الاجتماعي بغية بناء المعيار الحقيقي والأمثل والذي يكون بمعزل عن معايير الضغط الأخرى التي تروم الاستحواذ على الفرد وتجريده من كل قدرة على فهم الواقع بتجرد أو كما هو على حقيقته دون تزييف أو تحريف.
والمصيبة في كل تجارب هاته الدول هو أن المجتمع لا ينتج نخبه التفكير في هذا الجدل بل انها لتفكر في داخل هذا الجدل، وهو طبعا ما سيحول دون بلوغ أفاق التحرر من ضغوطات وأثقال خطاب الواقع الذي يفرض اجترار الأفكار وليس انتاج أخرى، طالما أن الأداة لا تتغير.
3
وعليه الأشكال يظل وفق ما سبق من سياق في التحليل كامن في النخب بكل أنواعها ومجالات اشتغالها، في إخفاقها في وضع مقاربات جديدة للتغيير من شأنها أن تضع أسس جديدة في مسارات التغيير المنشودة والمرجوة، مقاربات تفلت من ضيق حقول النشاط والاشتغال وتستهدف في المواطن مساحات أوسع ومسافات أشسع للنظر والتدبر وبالتالي إصدار الحكم الأمثل على الظواهر التي يموج في المجتمع.
فغياب هاته النخب غيَّب نموذج الانسان او المواطن القادر على فهم الأمور بشيء من الاستقلالية عن الابوية السلطوية السياسية بكل أنواعها الشخصية الكاريزماتية، القبلية أو الحزبية، وبالتالي جرد المجتمع من أهم أدوات الانعتاق السياسي والتاريخي وأبقاه رهينة لواقع يتجدد ولا يكاد بالمرة يتبدد.
4
لكن ما هي العناصر التي بوسعها أن تخلق الانسان المواطن ذي الأفاق البعيدة والناظر باتساع ووعي للواقع؟
هذا السؤال يشكل مرتكز القضية التحليلية التي نطرحها هنا، ذلك أن الإخفاقات في مساعي التغيير لطالما رُد فيها السبب بكثير من التسطح إلى أزمة الوعي، دون تفصيل في سمات هذه الازمة وهذا الوعي، وهنا يحضرني ما سبق وقاله ذات مرة في برنامج تلفزيوني الراحل بيرنارد تابي الوزير الفرنسي السابق والمغني، ورئيس أولمبيك مرسيليا الشهير سنوات التسعينيات، في معرض نقده لتراجع العمل الحزبي بفرنسا كنا ونوعا، حين ذكر أنه تعلم الموسيقى والغناء في فرع الحزب الاشتراكي بمرسيليا، حيث كان يعزف هو على آلة الكمان في حين كاتن أخاه قد اختار آلة البيانو، هذا البعد الجمالي في التنشئة السياسية هو ما يقوي من قدرات الفرد في أن يميز بين الطيب والخبيث في الخطاب والممارسة السياسية ذلك لأن الموسيقى بما تحويه من حس فني وبعد جمالي انساني مشترك، يضاف اليه بعد الحرية والحق والفضيلة، كل أولئك اسهم بلاأدنى ريب في ترسيخ معايير الجمال الناقد وليس الناقم فقط على الواقع.
5
وهكذا أدوات في التنشئة السياسية هي التي أسست لمجتمعات مدنية قوية وذات معنى ومضمون، حاضرة في نشاط الدولة التي تتخللها من خلال حركية مؤسساتها، بما يجعلها تمضي على استقامة جمالية مهما تلاعب أو حاول بعضهم التلاعب بها.
إن غياب المجتمع المدني وفق مقتضيات فلسفته وعناصره التي على رأسها الإنسان الناشئ على القيم الجمالية المذكورة آنفا، فسح المجال لقيام مجتمع سياسي منفلت غير ذي ضوابط ما فوق قانونية ووظيفية مؤسساتية، سيعمل على تجريد المجتمع كل المعايير التي عبرها يبني أسس قيامه واستقامته.
فالمجتمع السياسي المتحرر من سلطة المجتمع المدني، سيكرس الرداءة عبر كامل صعد المسئولية في البلد، طالما أن الأطر القيمية المفترض أن تحد من انحرافاته هي غائبة بغياب سلطان المجتمع المدني وما يحمله من فضائل وقيم العمل التي أشرنا إلى جزء منها.
6
خلاصة الأمر هي أن الإنسان الموطن في الدول المتخلفة عن الركب الحضاري اليوم، غير قادر على التغيير بسبب فقدانه لخطاب نخبوي جديد ينقله من ضيق الممارسة الكلاسيكية لمفهوم المعارضة والاعتراض السياسي، خطاب يقوم على عناصر تنشئة شاملة تتجاوز حدود مكنونات الأيديولوجيا وسوقها الراكدة لتلامس معايير قيمية أخرى تجعل من هذا الإنسان قادرا على أن يشكل رؤيته الناقدة والناقضة للأمر الواقع انطلاقا من قناعة ذاتية عميقة مؤسسة على جمالية معرفي ومعرفة جمالية للتاريخ، مثلما تقتضيه الديمقراطية التي بنت الأمم المتحضرة نفسها على أسسها. .
بشير عمري