استغل عبد العزيز بوتفليقة بشكل مستمر البترول الجزائري وريعه كوسائل لترسيخ دعائم سلطته وتقويتها، وفيما بعد ضماناً لاستدامتها. اشترى « السلم الاجتماعي » كما استخدم عائدات النفط كطعم لمعسكر الجنرالات عبر السماح لهم ولأعوانهم بملء بطونهم بعمولات على كل صفقات الدولة. 2019-06-20
حسين مالطي
احد مؤسسي « سوناطراك » ومؤلف كتاب « القصة السرية للبترول الجزائري » الصادر بالفرنسية عن دار نشر la decouverte
تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
من المؤكد أن 2019 سيظل عاماً فارقاً في تاريخ الجزائر. فبعد أن كسر الشعب الجزائري جدار الخوف في 22 شباط / فبراير الفائت، استطاع خلال شهر آذار / مارس التخلص من عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يبدو كرئيس لا يمكن زحزحته. رحل الرجل لكن نظامه ما زال حياً، حتى وإن كان يترنح. في سنة 1962 كان استقلال البلاد، أما في 2019 فالشعب هو من انتزع استقلاله. ويخرج منذ أكثر من ثلاثة أشهر ملايين الأشخاص إلى الشارع كل يوم جمعة هاتفين برغبتهم في التغيير العميق للنظام. كما نشاهد كل ثلاثاء آلاف الطلبة يعبِّرون عن رفضهم للمنظومة السائدة. وحققت هذه الحركة الاحتجاجية السلمية، التي أطلقت عليها تسمية « الحراك »، انتصارين كبيرين إلى حد الآن: استقالة عبد العزيز بوتفليقة وإلغاء الانتخابات الرئاسية التي كان من المفترض أن تعقد يوم 4 تموز / يوليو القادم تحت إشراف قادة مكروهين شعبياً. تطالب « ثورة الابتسامة » هذه برحيل كل الطبقة الحاكمة. وهي تريد أن يختار الشعب، بشفافية كاملة، رئيسه الجديد وينتخب غرفة نيابية تمثّله فعلاً ولا تكون رجع صدى للنظام، وكذلك إرساء الجمهورية الثانية ونظام قضائي حر ومستقل تماماً عن السلطة. يرفض الحراك بشكل خاص تنظيم كل هذه العمليات الانتخابية تحت وصاية رجال كانوا جزءاً من النظام الملغى، ويريد أيضاً أن يتعهد القضاء بتتبع كل « المافيوزيين » الذين حوّلوا وجهة ثروات البلاد لخدمة منافعتهم الخاصة. وهذه ليست إلا المطالب الأساسية للحركة.
أما وقد أصبحت الأمور على ما هي عليه الآن، فهل كان مثل هذا التطور الكبير للأوضاع متوقعاً؟ من المؤكد أنه لم يكن باستطاعتنا، عند وقوع الأحداث البارزة في الفترات الرئاسية الأربع لبوتفليقة، أن نحدد بدقة اللحظة التي يمكن أن يتغير كل شيء. ومع ذلك، فلقد كان من المتوقع أن نصل إلى الوضعية الحالية نظراً لتسلسل الأحداث. يمكن إذاً أن نرد بنعم على السؤال، لأن السيناريو الذي تعيشه حالياً الجزائر ينسجم مع منطق الأشياء. فككل الأنظمة الديكتاتورية، كانت منظومة بوتفليقة تغذّي في داخلها بذور تدميرها الذاتي. الصراعات الداخلية بين أجنحة المنظومة هي التي تسببت بانهيارها.
سيرة صعود بوتفليقة
بعد انتخابه رئيساً في نيسان / إبريل 1999 في ظروف مشبوهة، نظراً لأن الجنرالات دفعوا المرشحين الستة الآخرين إلى الانسحاب من سباق الرئاسيات عشية الاقتراع، حاول بوتفليقة الإفلات من وصاية الجيش عبر البحث عن الدعم الخارجي، بالأخص من رئيس الولايات المتحدة الامريكية. لكن الاعتداد بغطاء ودعم رئيس أكبر قوة دولية له ثمن باهظ جداً. وقد مثلت ضربات 11 أيلول /سبتمبر فرصة مواتية لبوتفليقة حتى يحقق أغراضه. فقد استغل سفرتين متتاليتين إلى بلاد العم سام قام بهما خلال الفصل الأخير من سنة 2001 ليعقد صفقة مع جورج بوش الابن: البترول الجزائري، بالإضافة إلى إتاحة منجم المعلومات الذي تمتلكه الجزائر عن تنظيم « القاعدة »، مقابل دعم وحماية واشنطن. كلف بوتفليقة المتعطش إلى السلطة صديق طفولته ووزير الطاقة شكيب خليل بوضع قانون محروقات جديد مستنسَخ كلياً عن العقيدة الأمريكية الجديدة في هذا المجال. وتحت غطاء تأهيل قطاع الطاقة للتأقلم مع شروط عمل اقتصاد السوق الحر والتنافسي، تمّ تكليف خليل بطلب مشورة ومساعدة البنك الدولي ومكاتب الدراسات الأمريكية لصياغة نص يتبنى حرفياً كل أحكام العقيدة الأمريكية الجديدة في مجال المحروقات. في الواقع، ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، كلف الرئيس جورج بوش فريق عمل يترأسه ديك تشيني، المدير العام السابق لشركة « هاليبرتون » الذي أصبح نائباً للرئيس، بصياغة تصور لهذه العقيدة. وبدون مفاجآت، تبنى القانون الجزائري الجديد الهدف نفسه الذي يسعى له الأمريكيون، أي تحويل حقوق ملكية منابع البترول والغاز التابعة للشركات الوطنية في البلدان المنتجة إلى الشركات البترولية متعددة الجنسيات وأغلبها أمريكية. وتقضي أهم الأحكام الواردة في القانون الجزائري الجديد بإلزام كل شركة أجنبية متحصلة على رخصة تنقيب بأن تقترح على الشركة الوطنية « سوناطراك » المساهمة بنسبة 20 إلى 30 في المئة، ويجب على هذه الأخيرة أن ترد بالرفض أو الإيجاب في أجل لا يتجاوز 30 يوماً. لكن رد الشركة الوطنية سيكون حتماً سلبياً نظراً لأن قيمة الاستثمار المطلوب تكون عادة مرتفعة جداً، وكذلك لأن البيانات التقنية التي تتوفر في تلك المرحلة من العملية تكون غير دقيقة. وهذا يعني أنه بمرور الوقت ستكون كل منابع البترول والغاز قد أصبحت تحت السيطرة الأمريكية.
ككل الأنظمة الديكتاتورية، كانت منظومة بوتفليقة تغذّي في داخلها بذور تدميرها الذاتي. الصراعات الداخلية بين أجنحة المنظومة هي التي تسببت بانهيارها.
عقد بوتفليقة صفقة مع جورج بوش الابن: البترول الجزائري، بالإضافة إلى إتاحة منجم المعلومات الذي تمتلكه الجزائر عن تنظيم « القاعدة »، مقابل دعم وحماية واشنطن له.
معارضة « دائرة الاستعلام والأمن » والنقابة المركزية (« الاتحاد العام للعمال الجزائريين ») للقانون جعلت بوتفليقة يجمده في 2003، لأنه يقلل من حظوظه في الفوز بعهدة رئاسية ثانية، ثم يدفعه إلى البرلمان للمصادقة عليه إثر إعادة انتخابه، قبل أن يحذف منه الفصول الأكثر إثارة للجدل في 2006. ونظراً لسخطه بسبب خسارته معركة لَيّ الذراع التي خاضها ضد قوى أخرى من المؤسسة الحاكمة في الجزائر، صاغ شكيب خليل قانوناً آخر أحكامه منفّرة بشدة لأي مستثمر أجنبي يرغب في القدوم إلى الجزائر.
معادلة البترول والسلطة
استغل عبد العزيز بوتفليقة بشكل مستمر البترول الجزائري وريعه كوسائل لترسيخ دعائم سلطته وتقويتها وفيما بعد ضماناً لاستدامتها. فلقد مكنته عائدات البترول من شراء السلم الاجتماعي عبر دعم أسعار عدد من المنتجات الأساسية بالإضافة إلى المحروقات، كما استخدمها كطعم لمعسكر الجنرالات عبر السماح لهم ولأعوانهم بملء بطونهم بعمولات على كل صفقات الدولة، حتى تلك المهمة جداً التي تبرمها المؤسسة الوطنية للمحروقات. الأمر هنا يتعلق بمئات ملايين الدولارات التي تقاسمها كل هؤلاء الفاسدين الذين كانوا يتمنون شيئاً واحداً فقط: أن يبقى بوتفليقة على رأس الدولة لأطول وقت ممكن. كان الفساد أداة حكم عبد العزيز بوتفليقة، فهو الذي مكنه من اشتراء دعم رجال أعمال فاسدين وموظفين كبار وسياسيين من مختلف الانتماءات وأعضاء جماعات دينية. حتى توفير المنتجات المعدة للاستهلاك الجماهيري بأسعار منخفضة للشعب كان بالنسبة له شكلاً من أشكال الرشوة. وجاءت أول محاولة لكبح هذه الممارسات من قبل « دائرة الاستعلام والأمن » في كانون الثاني / يناير 2010 عندما تمت إحالة المدير العام لمؤسسة « سوناطراك » وبعض نوابه ومدراء آخرين إلى القضاء، ثم إلى السجن بسبب تورطهم في فضيحة فساد كبيرة. كما تمت إقالة وزراء الطاقة والداخلية والاستثمار كاستتباعات لهذه القضية.
تبنى القانون الجزائري الجديد الهدف نفسه الذي يسعى إليه الأمريكيون، أي تحويل حقوق ملكية منابع البترول والغاز التابعة للشركات الوطنية في البلدان المنتجة إلى الشركات البترولية متعددة الجنسيات وأغلبها أمريكية.
كان الفساد أداة حكم عبد العزيز بوتفليقة، فهو الذي مكّنه من اشتراء دعم رجال أعمال فاسدين، وموظفين كبار وسياسيين من مختلف الانتماءات وأعضاء جماعات دينية.. حتى توفير المنتجات المعدة للاستهلاك الجماهيري بأسعار منخفضة للشعب كان بالنسبة له شكلاً من أشكال الرشوة.
ظل هذا النظام فعالاً بشكل مثالي طالما كان سعر برميل النفط يتراوح ما بين 100 و140 دولاراً وكانت الجزائر تجذب المستثمرين الأجانب. لكن الأمور بدأت تسوء انطلاقاً من سنة 2011. جاء الإنذار الأول عندما ظهرت شائعات مفادها أن هناك إفراطاً في تقدير قيمة احتياطات الغاز في الجزائر، وبدأت تنتشر في أوساط صناعة البترول عبر العالم. وكان وزير الطاقة الجديد يوسف يوسفي يكذِّب هذا الكلام ويصرح بأن البلاد تمتلك احتياطياً من الغاز كافٍ لتغطية حاجات السوق المحلية وتوفير الكميات التي التزمت الجزائر بتصديرها. لكن الأرقام عنيدة، فقد تراجع إنتاج الغاز في الجزائر فعلياً لينخفض من 89 مليار متر مكعب سنة 2005 إلى 83 مليار متر مكعب سنة 2011، في حين أن قيمة الصادرات انخفضت من 65 مليار متر مكعب سنة 2005 إلى 49 مليار متر مكعب في 2012. اضطر الوزير إذاً للإقرار بهذه الحقائق والاعتراف بكون الجزائر تجد صعوبات متزايدة في تسويق غازها، حتى على مستوى الأسعار، لأن الولايات المتحدة كانت في طور الانتقال من موقع المستهلك الكبير إلى موقع الدولة المصدِّرة نظراً لشروعها قبل عشرة أعوام في الاستغلال المكثف لاحتياطيها من الغاز الصخري. وأقر أيضاً بأن الاستهلاك الداخلي للغاز الطبيعي يشهد ارتفاعاً كبيراً منذ عدة سنوات، وبأن استمرار الأمور بهذا النسق سيجعل الجزائر مهددة بالعجز عن الإيفاء بتعهداتها للخارج. حتى إنتاج البترول أصبح في تراجع، فقد انخفض حجمه من 85 مليون طن في 2006 إلى 76 مليون طن في 2012. على الرغم من ذلك، فلم يكن لهذا الانخفاض تأثير كبير على التوازنات المالية للبلاد، نظراً لكون سعر برميل البترول بقي في حدود 120 – 130 دولار.
لكن هذا المنحى التنازلي المتواصل بدأ يقلق النظام بشكل جدي، خاصة وأن الأجهزة الأمنية المكلفة برصد أي بوادر تمرد لدى الشعب أصبح عدد منتسبيها وحجم نفقاتها في تزايد مستمر. ثم جاء إنذار جدي آخر عندما تبين أن المناقصة التنافسية الثالثة لمنح رخص التنقيب التي أعلنتها الجزائر في تشرين الأول/ أكتوبر 2011 لم تكن مثمرة.
الأزمة
وصلت الأمور إلى حدٍ لم يعد بإمكان النظام تحمله: سعر بيع الغاز في انخفاض مستمر والقطاع المنجمي فقد جاذبيته، وهناك في المستقبل عقود بيع لا يمكن تنفيذ بنودها. وهذا يعني أن هيكل السلطة بأكمله بصدد التفتت. ولمعالجة هذه الوضع، أعلن وزير الطاقة عن قانون جديد للمحروقات يتضمن تدبيرين أساسيين: يقضي الأول بإعادة النظر في طريقة احتساب الضريبة على أرباح الشركات البترولية بشكل يجعلها ترتبط مستقبلاً بنسبة المردودية المالية لعملياتها، أما الثاني وهو مخصص لمواجهة تدني إنتاج الغاز الطبيعي فقد رخّص لاستغلال الغاز الصخري « الشيست ». كما كانت هناك خيبات أمل مردها صراعات النظام الداخلية. مثلاً الهجوم الإرهابي الذي استهدف حقل غاز « تيقنتورين » بمنطقة عين أمناس في كانون الثاني / يناير 2013 جعل جاذبية الجزائر تقل أكثر في عيون الشركاء الأجانب الذين بدأوا يتشككون في نجاعة الوسائل التي وُضعت لتأمين حماية العاملين والمنشآت الصناعية. نُفِّذت هذه الهجمة من قبل مجموعة تعمل تحت إمرة مختار بلمختار وهو قائد إرهابي كان يُعتبر إلى حد ذلك الوقت أحد رجال « دائرة الاستعلام والأمن » التي استطاعت إقناع الأمريكيين بفائدة هذا الشخص إلى درجة أنهم لم يقتلوه حتى عندما توفرت لهم الفرصة عدة مرات. انتشرت شائعات في تلك الفترة مفادها أن الهجمة كانت في الأصل عملية من تخطيط « دائرة الاستعلام والأمن » قبل أن تتعقد الأمور وتتخذ مجرى آخر. وهي تسببت في موت 70 شخصاً قتلتهم الصواريخ التي أطلقتها مروحيات « دائرة الاستعلام والأمن ». وأوضح حينها الأمريكيون للجزائريين أن سياستهم في اختراق « تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي » فاشلة وطالبوا بعملية تنظيف واسعة داخل « دائرة الاستعلام والأمن ». وكان مدير الجهاز، توفيق مدين، الوحيد الذي استطاع إنقاذ منصبه. لكن الأثر الجسيم لهذه العملية كان ظاهراً بوضوح. فلقد أضعفت النظام بشكل كبير. بلغ حينها الاحتقان بين قائد أركان الجيش وقادة المناطق العسكرية من جهة، وجنرالات « دائرة الاستعلام والأمن » من جهة أخرى، حداً مُخطراً كاد أن ينتهي بحمام دم.
نُفِّذت هجمة حقل غاز « تيقنتورين » مطلع 2013 من قبل مجموعة تعمل تحت إمرة مختار بلمختار، وهو قائد إرهابي كان يُعتبر إلى حد ذلك الوقت أحد رجال « دائرة الاستعلام والأمن » الجزائرية التي استطاعت إقناع الأمريكيين بفائدة هذا الشخص إلى درجة أنهم لم يقتلوه حتى عندما توفرت لهم الفرصة عدة مرات.
يضاف إلى كل ما سبق ضعف الحماس الذي أظهرته الشركات النفطية عند إطلاق المناقصة الرابعة في كانون الثاني/ يناير 2014 من أجل منح رخص تنقيب جديدة. عرضت المناقصة 31 حقلاً، منها 17 تتركز في مناطق يتوفر فيها الغاز الصخري. اقتصرت عروض الشركات على رخص تنقيب أربعة حقول كلها خارج منطقة الغاز الصخري. بدأ حينها الفزع ينتاب صفوف النظام عندما رأى أن هذا الريع الجديد، الذي كان يعول عليه لإنعاش منظومة حكمه، لا يبدو محفزاً لشركاء محتملين. مقالات ذات صلة
لكن الضربة الصاعقة الأكبر ستأتي فيما بعد. خلال اجتماع منظمة الدول المصدرة للنفط في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 حين فرضت السعودية قراراتها على باقي أعضاء المنظمة. فسعياً منها لتعويض حصص السوق التي قضمتها الشركات الأمريكية المنتجة للبترول الصخري، رفضت السعودية أي خفض للإنتاج تحت مستوى 30 مليون برميل في اليوم. وكانت ردة فعل السوق فورية، إذ تهاوى سعر برميل البرنت بشكل سريع جداً. فخلال شهر فقط تدنى من 72 دولاراً إلى 57 دولاراً في آخر يوم من سنة 2014.
« الجيش يعارض هذا الاقتراح »
في موازاة هذه الأحداث، نجحت أحزاب المعارضة لأول مرة في التفاهم على برنامج الحد الأدنى من المطالب. أنشأت هذه الأحزاب « التنسيقية الوطنية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي » التي اقترحت تنظيم فترة انتقالية يتم خلالها اختيار رئيس جديد للجمهورية بدلاً من عبد العزيز بوتفليقة الذي ساءت حالته الصحية كثيراً. أُغلقت هذه النافذة الصغيرة فوراً من قبل رئيس أركان الجيش « قايد صالح » الذي رد بالطريقة نفسها التي رد بها قبل شهر على مطلب مماثل: « الجيش يعارض مثل هذا الاقتراح ».
كل هذا حدث منذ خمس سنوات. لكن نظراً لإهمالهم وعدم اهتمامهم برفاه الشعب، ولأنهم كانوا دائماً مهووسين بمسألة واحدة، وهي ضمان بقائهم في السلطة لمواصلة نهب الثروات الوطنية، فإن مافيوزيي النظام الجزائري بمختلف انتماءاتهم، عسكراً ومدنيين، لم يروا المشاكل وهي تتراكم على الجزائر. لم يعرفوا أو بالأحرى لم يريدوا أن يعاينوا في الوقت المناسب تدهور الحالة العامة للبلاد، بما في ذلك حالة قطاع المحروقات على الرغم من أنه يوفر تقريباً كل عائدات البلاد من العملات الصعبة الضرورية لتغطية الواردات الضخمة للجزائر، الأمر الذي كان يمكِّنهم من إيهام الشعب بأنه في عيش رغيد.
استمرت السلطة في استيراد كل شيء وبطريقة عشوائية. لم تخطر أبداً ببال حكام الجزائر فكرة إرساء برنامج لتنمية الاقتصاد يقوم على عمل وجهد وذكاء المواطن، لأنهم يعتبرون أن مواطناً مسؤولاً هو مواطن خطير.
كيف تفاعلت السلطة مع الوضع المتأزم الذي كان يترسخ تدريجياً؟ نظراً لعدم كفاءتها أو لجشع البعض الذين يسعون دائماً للحصول على عمولات أكبر، استمرت السلطة في استيراد كل شيء وبطريقة عشوائية. لم تخطر أبداً ببال حكام الجزائر فكرة إرساء برنامج لتنمية الاقتصاد يقوم على عمل وجهد وذكاء المواطن، لأنهم يعتبرون أن مواطناً مسؤولاً هو مواطن خطير. يجب أن يبقى قاصراً على الدوام وألاّ يرى خلاصه إلا في بقاء السلطة في أيادي « العصابة » نفسها. هذا هو المصطلح الذي استعمله مؤخراً الجنرال قايد صالح للحديث عن أعمدة النظام هؤلاء، ومن بينهم شقيق الرئيس المخلوع، الذين تحالفوا ضده وسعوا إلى ازاحته من منصبه. لكن لا يجب أن ننسى أن قايد صالح نفسه كان العمود الأهم لهذا النظام طيلة العشرين عاماً الأخيرة. لم تفهم السلطة ان الطريق الذي اختارته سيتسبب – على مدى طويل نسبياً – بأضرار جسيمة للجزائر، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها، وأنه أيضاً مسلك انتحاري بالنسبة لها. حتى وإنْ لم يكن الشعب حينها يعبِّر عن رفضه الكامل للنظام كما يفعل الآن بشكل مبهر منذ أكثر من ثلاثة أشهر، فإنه كان يطلق عشرات الاحتجاجات اليومية لكي يقتلع من المافيوزيين الذين يحكمونه بعض المكاسب المالية الهزيلة، ويسترد ولو جزءاً ضئيلاً من الريع النفطي الذي يتقاسمونه. وتُظهر الشعارات التي كان الشباب يرفعونها خلال تلك الاحتجاجات مدى كرههم لبوتفليقة وجماعته والجنرالات والأوليغارشيين الذين لم يحترموا لا التاريخ المجيد لبلادهم ولا أبناء شعبهم. الجبن الذي أظهره الحكام في تلك الفترة كان يبيّن يوماً بعد يوم أنه ليس لهؤلاء أدنى احترام حتى لأنفسهم.
طفح الكيل
وقد أضيفت إعادة انتخاب بوتفليقة لعهدة رئاسية رابعة إلى كل هذه الأجواء المسمومة. حالة الرئيس الصحية المتردية كثيراً جعلت منه شبحاً لا يظهر إلا نادراً وللحظات قليلة على شاشات التلفزيون، لكن رجال السلطة لم يستطيعوا التوافق على اسم البديل. في نيسان / إبريل 2014، لم يذهب الشعب الذي اعتاد منذ الاستقلال على هذه المهازل الانتخابية، الى مراكز الاقتراع، فبلغت نسبة الامتناع عن التصويت رقماً عالياً جداً نادراً ما سُجِّل في أماكن أخرى: 90 في المئة. الإهانة التي وجهها الشعب للنظام كانت هائلة لكن السلطة تذهب بعقل الحاكم وتعميه. وهذا ما سيثبته المسؤولون الجزائريون بعد خمس سنوات، فهم لم يفهموا أن الشعب لا يرغب بتاتاً في أن يعيش مسخرة 2014 مرة أخرى. هو الذي يعيش في ظروف بائسة كان يشاهد « أهل القمة » يسكنون القصور الفخمة ويتجولون في سيارات فارهة ويركبون الطائرة باستمرار للسفر إلى الخارج. وكان يشاهد كيف يسافر هؤلاء للتداوي في مستشفيات أو مصحات أوروبية في حين يرسلونه هو للمستشفيات الجزائرية التي تحولت إلى قاعات انتظار للموت. كان على هذا الشعب أن يرسل أبناءه إلى مدارس جزائرية دون أمل في تحصيل تكوين جيد في حين يرسل « أهل القمة » أبنائهم للتعلم في مدارس وجامعات أجنبية.
في نيسان / إبريل 2014، لم يذهب الشعب الذي اعتاد منذ الاستقلال على هذه المهازل الانتخابية الى مراكز الاقتراع، فبلغت نسبة الامتناع عن التصويت رقماً نادراً ما سُجِّل في أماكن أخرى: 90 في المئة. الإهانة التي وجهها الشعب للنظام كانت هائلة لكن السلطة تذهب بعقل الحاكم وتُعميه.
ولأن كرامته قد مسّت ورفض أن يرضخ مرة أخرى لإهانة التصويت لـ »إطار » توجد داخله صورة عمرها أكثر من ثلاثين عاماً، ويوضع على كرسي فوق منصة حتى ينحي أمامه خدم النظام، فقد عبر الشعب يوم 22 شباط / فبراير الماضي عن لفظه الكامل لهذه السلطة.
كيف ستنتهي هذه المواجهة؟ لا أحد يعرف. ولكن ما يمكن ملاحظته هو أن قائد أركان الجيش الممسك حالياً بمقاليد السلطة خائف كثيراً من الشعب. فهو يحاول اشتراء السلم عبر تقديم رؤوس عدد كبير من المسؤولين السابقين في نظام بوتفليقة. يبلغ عدد هؤلاء ما بين 200 و300: وزراء سابقون وموظفون كبار ورجال أعمال فاسدون تمت إحالتهم إلى القضاء. لكن مبادرة قائد الأركان لم تكن كافية لإرضاء الشعب الذي بقي هدفه ثابتاً وهو التخلص نهائياً من هذا النظام، لأن حجم الكره الذي يكنه له كبير بحجم الإحباط الذي عاشه طيلة عشرين عاماً.
ترجمه عن الفرنسية: محمد رامي عبد المولى