بشير عمري*
04/12/2019
https://alsiasi.com/
في وقت يواصل فيه النظام بالجزائر استجماع شتات بقاياه بعد حطام الربيع الفائت الذي لحقه جراء إعصار الحراك الثوري، لا يزال بعض المستأنس بالأدب التحليلي الأكاديمي البارد عن طبيعة وهوية الحراك الثوري وما إذا كان فعلا يستحق نعت الثورة، وهل ينطبق عليه قانون الثورة كما تطرحه فلسفة العلوم السياسية والتاريخ؟ ما يكشف عن أزمة كبيرة لدى شركاء المسرح السياسي الوطني وغربتهم عن المعرفة مثلما هي غربة الأكاديميين عن السياسة بسبب هيمنة البعد الأمني على الحقلين السياسي العملي المتعلق بالمواقف والممارسات الحزبية والشخصياتية المتصلة بنقد الواقع السياسي بالسياسة، والحقل المعرفي الأكاديمي حيث لا تزال الجامعة هيكليا وتنظيميا وبيداغوجيا خاضعة للوصاية الوطنية لا تخرج عن خطاب النظام ولا تتزحزح عنه قيد أنملة.
وإذا كانت الجامعة قد تزحزحت نسبيا عن وضعها القديم، وعبرت عن رغبتها في الانتهاء من تلكم الهيمنة والوصاية من خلال تصدُّر الحركة الطلابية للحراك الثوري وتخصيص يوم للتظاهر في كل المحافظات الجامعية مطالبة لا برفع يد السلطة (الجهاز الأمني) عليها وإنما برحيل النظام وتحقيق حلم الشعب الذي دام ستين سنة في الانتقال الديمقراطي، فإن الجميع ليظل مستغربا لصمت القبور الذي أظهرته ما تسمى بقوى المعارضة في خضم هيجان الشارع الجزائري، إذ لم تعد قادرة حتى على تحرير بيان إدانة للتضييق بل الإقصاء الإعلامي الذي صار يمارس ضدها.
وهنا يطرح السؤال هل بات ممكنا الحديث عن معارضة سياسية جادة في الجزائر والشعب قد تجاوزها لتحرير السياسة والسلطة من نظام وصائي لا يعترف بحرية الوعي ولا وعي الحرية؟ وكيف هوت المعارضة إلى هذا المنخفض المهول من الصمت حتى في أتعس مراحل عمر النظام وضعفه؟
السقوط في حرب الحسابات الإيديولوجية البينية
ثمة أزمة تاريخية للمعارضة استطاع النظام أن يوقعها فيها من حيث درت هي أم لم تدري، وهي فكها عن جذورها الأولى المؤسسة للوعي بالدولة الوطنية في الجزائر، في وقت كانت عليها أن تمتد إلى تلكم الجذور كي تقوي من الموقف التاريخي المدين للنظام منشأ ومسلكا، وتضعف من الطرح النظامي للتاريخ الذي كرسه رائدا للوطنية الجزائرية جاعلا إياها حصانه الأبدي للبقاء والاستمرار في وعي الشعب وحكمه.
أسهم ذلك في ميلاد تعددية خفيفة ضعيفة مراهقة تخبط خبط عشواء بما تحمل من خلفيات أيديولوجية ومثاليات تاريخية لأفكارها من يمين إلى يسار إلى وسط وتيار إسلامي حالم بالماضي البعيد.
وقد ظهر الخلل الكبير في هذا النشوء المبتور في الزمان في أولى صراعات النخب السياسية التي خرجت من السرية إلى العلنية، يقصي بعضها البعض بأحكام قانونية وتاريخية وموضوعية تتصل بشروط وشرعية الكينونة في مسارح الفكر والسياسة، وهنا خف الضغط عن إيديولوجية النظام التي كرسها في الدولة والمجتمع لمدة ثلاث عقود حينها، آلت بالبلد إلى خرب عارم كشفت عنه ثورة أكتوبر 1988.
وحتى أسئلة التاريخ التي كانت تتفجر هناك وهناك لم تكن تعنى بنقد المنشأ السياسي لدولة ونظام الاستقلال بقدر ما كانت تخوض أكثر في الأزمات التنظيمية والهيكلية والحسابات التكتيكية لقادة التيارات والاتجاهات والجماعات الوطنية والسياسة، ما يعني أن نقد المشروع الوطني للدولة التي قادة البلاد، لم يُتصدى له بالشكل الذي يربط واقع الأزمة الحالية بماضيها وهو ما كان يتيح للنظام الإفلات من اتهامات وأحكام التاريخ ضده.
دواعي الترخيص للتطرف السياسي
وبمنحه للاعتماد القانوني لحزبين متضادين في الأساس الفكري والتاريخي متطرفين في مشروعيهما ومتهورين، ابتغى النظام بذلك مزايا عدة أبرزها:
1 الاحتماء من ضربات النقد التي كانت ستبدده وتبيده مبكرا في تلك الفترة الثورية بعيد اكتوبر 1988، حيث اشتعل الجدال بين المكونات الايديولوجية الفتية أكثر من عملية نقد للوطنية المؤدلجة التي حكم بها النظام الدولة والمجتمع.
2 إظهار أمام الرأي العام الداخلي والخارجي عدم امتلاك التيارات السياسية الوليدة الفتية لمشروع دولة واكتفائهم بالشعارات الإيديولوجية وهذا ما يعطيه مصداقية إضافية لا سيما وأنه استعمل وسائل الدولة بتكتيك عال المكر يوم إشراك تلكم المعارضة في العملية الانتخابية خطط لها بأحكام وعمل عبر المؤسسات التي كان يسيطر عليها، على إرهاق الأحزاب الفائزة في تلك الانتخابات المحلية بالتضييق القانوني والمالي والبيروقراطية المعقدة ما جعلها تخفق في أداء الوظيفة العمومية والتمثيلية الرقابية للشعب.
3 استغل التوجس الإيديولوجي البيني في المعارضة وخلافاتها الكبيرة حول الهوية واللغة وسن قوانين متصلة بهذا الجانب مثل قانون تعميم التعريب مع الترخيص بالتظاهر ضده، في مقابل الترخيص بالتظاهر ضد من يستهدف قانون الأحوال الشخصية المستمد في بعض أجزائه من الشريعة الإسلامية وكل ذلك لاعطاء الانطباع بأنه الوحيد الذي بوسعه جمع كل تلك التناقضات وإلا فالبلد غير آمن على نفسه ووحدته إذا ما اختار السير في الاتجاه الديمقراطي التصارعي غير التنافسي القاضي بحكم الأغلبية، وهو ما سيحدث بعد فوز الإسلاميين بالدور الأول في الانتخابات التشريعية التي نظمت ضدها مسيرة مليونية اتخذها النظام مبرر للانقلاب على إرادة الشعب.
فقدان الثقة في الشارع السياسي
وهكذا اندلعت أول مواجهة عسكرية في عه التعددية بين النظام ـ الدولة والمعارضة ممثلة الجبهة الإسلامية، استعملت فيها كل الوسائل الحربية الإعلامية، الدعائية المالية، وانتهت ليس فقط باقتلاع الجبهة الإسلامية واستنزاف المجتمع والدولة في حرب ضروس دامت عشرية كاملة، بل وبإبطال الوعي الناشئ بالتعددية السياسية الفتية إذ ذاك.
فجل الأحزاب التقليدية المعارضة أدركت أن العمق الشعبي وقوة امتلاك الشارع لن تمنحها فرصة ولا شرعية الحلول في السلطة محل سلطة النظام، فكل تلك الملايين التي مشت خلف الجبهة الاسلامية للإنقاذ تلاشت بالتدرج وتفرقت فيما بين الأحزاب واللا حزبية، ومع تأميم العمل السياسي عبر الأجهزة الأمنية الباسطة بحضورها الاستخباراتي القوي والباطشة بيدها الطولى الممتدة إلى أعماق المجتمع، بدأت الأحزاب تفقد الثقة في القواعد النضالية وبالتالي في مجتمع الرفض لمشروع النظام والأمر الذي أركس كل أمل في التأسيس لمجتمع سياسي قوي يعيد تصحيح المسألة الوطنية بفك ارتباطها بالنظام القديم ويعمل على بناء نظام سياسي وطني جديد.
وما كان من جل تلك الأحزاب إلا أن قلبت بالتداعي طوعا وكرها إلى موائد النظام تشارك في أعراسه الانتخابية المزورة، تحتج على التزوير أحيانا لساعات في مسيرات باردة ثم تدخل قصور التمثيل القاصر للشعب في مؤسسات يشار إلا أنها نيابية في حين يدرك الجزائريون أنها صورية لا تعني سوى نزول المعارضة السياسية الجادة وتنازلها عن ميراثها وسمعتها وأرصدتها في النضال من أجل الشعب، فقط لتضمن تواجد شكلاني في المشهد واقتسام ريوع السياسة.
سلبية الانفصام بين المعرفي والسياسي
هكذا إذن قطع النظام سبل الاتصال والتواصل بين الأحزاب السياسية والشعب، وأفقد بعضها ثقة البعض، حتى إذا ما جاء الحراك في الربيع الماضي تكشفت حدة أزمة الثقة تلك بإقدام شباب الحراك الثائر، على طرد جميع قادة الأحزاب بدون استثناء في إدانة واضحة منه لهم بكونهم نواد للتسلية السياسية بالشعب وليس مؤسسات لها دورها الدستوري والتاريخي رفضت أن تضطلع به في أحلك مراحل أزمة الحكم التي عمقها بوتفليقة وآله وصحبه مدة 20 سنة.
فهل سيقطع الشعب مجددا مع التعددية الثانية في تاريخ الدولة الوطنية بعد تلك التي أذابها النظام فيه حيث باعته ماضيها الممتد إلى بداية إرهاصات الوعي الوطنية وبروز فعاليات الحركة الوطنية؟
سؤال جد صعب في ظل استمرار حالة الخصام والانفصام الحاصلة بين المعرفي والسياسي بالجزائر على مستوى الطرح المتضمن لمنهجية المقاربة الوطنية والسياسية خارج الأطر والمحددات والمقررات الرسمية التي سطرتها نخب النظام لمدة ستة عقود من الزمن ولقن الناشئة جيلا بعيد جيل.
الخلاصة هي أن المعارضة سقطت في ذات أزمة النظام بافتقادها هي الأخرى للمشروع الوطني وتمشيها خلف خارطة طريقه التي كان يفرضها بأسلوبيته المزدوجة الإغراء والعنف لهذا لم تتطور على مستوى رؤاها وأدائها السياسيين ولم تتصف بالندية الاحتجاجية والمواجهة السلمية الآلة النظام وهو ينحرف بالدولة والمجتمع نحو المجهول، خصوصا حين تم اغتصاب الدستور سنة 2008 وفتح العُهدات الرئاسية التي كانت مقيدة بعهدتين لتحقيق حلم بوتفليقة بالموت على العرش قبل أن يبطله الشعب بقوة مده الثوري يوم 22 فبراير الفائت.
بشير عمري
كاتب سياسي جزائري