سنة مرت على حادثة مقتل الحراكي جمال بن إسماعيل حرقا في منطقة القبائل، حادثة تمت قراءتها بالمنطق السياسي والأمني وفي السياق السياسي الذي عيشه البلد على أكثر من الصعيد، ولا تزال أوسع من أن يحصرها البعد القضائي والاجرامي، لدى المهتمين بالمسألة الحراكية التي كان الفقيد أحد رموز شبابها، ولا يفتأ هؤلاء كما سائر الملاحظين يتساءلون عن الشاكلة المنطقية التي يمكن من خلالها موضعة هذا الحدث في السياق التاريخي للبلد حيث كان الشارع يزخر ويضطرم بالنشاط السياسي والوطني نيابة عن نخب ومؤسسات مستمرة في كسلها وغطيطها الطويل، وبالمرة يتساءل هؤلاء وأولئك عن العناصر التي يكون حدث مقتل بن إسماعيل بالوحشية التي تم بها، قد أضافها إلى تجربة الحراك وبُعده الثوري.
يكمن القول أن القتل حرقا الذي استهدف الراحل بن إسماعيل قد أعاد الوعي بالتغيير وأساسه الحراكي الثوري، إلى مربع الأسئلة الأساسية أو التأسيسية الأولى، أبرزها على الاطلاق، هل يمكن فعلا الاكتفاء بالتحشيد الثوري دون حد أدنى بالوعي المجرد أولا؟
هذا السؤال يجد مبررات طرحه في أكثر من واقعة في التجربة الحراكية بالجزائر، حيث كان البعض يعتقد بأن المسألة لا تعدو كونها مسيرات متتالية كل أسبوع، ستنتهي بنصر حتى لو ظل الأفق ضبابيا على صعد لوائح المطلبية السياسية والخلفية الايديولوجية، ومن الوقائع التي جسدت هذه المفارقة بين المبادرة الثورية الحراكية والوعي، هي ما حدث مع تلك طبيبة التي ظلت لسنوات تتصدر المشهد الإعلامي المعارض لنظام بوتفليقة في متا عرف بحركة “بركات” عبر الشاشات والمنتديات ويوم تفجر الحراك الشعبي الذي عصف ببوتفليقة ونظامه، ركبت موجته وانخرطت في صفوفه لكن ما إن أحكمت السلطة بزمام الأمر أمنيا ووجه لها استدعاء إلى مركز الشرطة، انخرطت في بكاء وعويل طويل يتزع هنا كل صفة الثوري، وانتهت الثورة لديها على باب مركز الشرطة ! .
فالوعي النظري بالتغيير يظل مرتبطا بالثقافة السياسية والايغال في تجارب التاريخ، التي لا تكاد تنقطع، طالما أن معضلة الحكم مستمرة باستمرار الصراع على الخيرات والمقدرات التي من خلالها تحمل السياسة مفهومها ومدلولها النظري، والتطبيقي معا، فالتغيير ليس في سبل بلوغه يمضي وفق البهرجة الشعبوية والفنتازية التقليدية، وليس يبلغ مراميه عبر تحشيد وحشو بشري فارغ من كل مضمون.
بعد الوعي المجرد من مدلولات وتجارب التغيير الثوري الذي طبع سير الإنسانية في نهوضها السياسي، يأتي مرتكز المرحلة وهو الوعي بالواقع السياسي الخاص، الذي من دونه لن يستطيع الوعي النظري المجرد أن يبلغ محله مهم تعاظم وتفاقم، ذلك لأن الخصوصية هنا هي مسألة فارقة، كونها تحمل كوعي فوق التجريد قناديل العبور السليم المضيئة صوب الهدف من الحركة وهو التغيير الواضح والتام .
وأذكر في هاته الجزئية أيضا حسرة ذلك الفاعل والمؤثر الحراكي الذي انزاح عن مطلب الحراك الرئيس الذي لخصته المقولة الشعبية (وليس الشعبوية) “يتنحاو قاع” أي يرحلوا جميعهم، التي قال بها شاب من الوسط الحراكي المشتعل وقتها، حيث صار هذا الفاعل مع مخطط السلطة الذي قضى بتنظيم انتخابات رئاسية، معتقدا أن ذلك سيفضي بتتويج الحراك بالرئاسة، قبل أن يتفاجأ بالأسماء التي تم قبول ملفات ترشحها والتي تقع كلها خارج الدائرة والإرادة الحراكية فوصف نفسه عبر فيديو نشره على حسابه الخاص بـ”الحمار” كتعبير عن فقدانه للحنكة الثورية والرؤية السياسية والوعي بالتالي بالواقع الخاص المستهدف بالتغيير!
لكن السؤال يظل هنا فارقا فيما بين غياب الوعي المجرد العام والوعي العملي الخاص لقوى التغيير الشعبي الحراكي، وهو ما الذي كان يتوجب القيام به حتى لا يحدث الشرخ والاختراق الذي دب في صفوف الحشود وفرقها وكان مقتل بن إسماعيل من أبرز مآسيها؟
وهل كان حقا على الحراكيين التنظيم والانتظام في إطار رسمي واضح لتلافي الاختراق والتضليل الذي استهدف الحراك، ليس ليوقف قطاره في منتصف السكة بل ليزيغه من مساقه الثوري؟
هنا تحديدا تمظهر وتجلى الغياب المهول للوعي التغييري الخاص، رغم زخم التجربة الوطنية بالأحداث والانتفاضات قبل وبعد التعددية، ما يؤكد أن الفكر السياسي الوطني لا يتماشي والنسق التطوري المبادرات الاحتجاجية الشعبية، باعتبارها تركما من التعبير عن مشروع الدولة ودرجة الألم الاجتماعي الذي يعانيه الوطن والمواطن بسببه، وأن هدا الفكر السياسي الوطني مشدود أكثر إلى التاريخية، والتجريدية منها إلى الواقعية، والأمر أتضح مما كان يقال أثناء الحراك عبر البلاتوهات من بعض النخب ذات الكلام الاكاديمي وهي مطروبة جدا بمتاعها ومتعتها النظرية تحاول تعسفا وأحينا تكبرا قراءة المشهد الحراكي ونقده!
هي إذن مأساة العقل الذي تحياه الأمة وهي تتناول أحداثا مفصلية في تاريخها السياسي، إذ ترى باكية متباكية غير متأملة ما حدث، فتماما كما تتباكى هاته الأيام بعض الفرق والطوائف، كنا هو حالها منذ 15 قرنا على وحشية مقتل الحسين رضي الله عنه، وهو خارج لثورة إصلاحية للأمة، اكتفى البعض بالبكاء على جمال بن إسماعيل جون الارتجاع بالنقد للحادثة حتى تغدو نبراسا في مسيرة التغيير المنشودة !