ماذا يحدث في الوطن العربي؟ ربيع تشم فيه الشعوب العربية عبق أزهاره المتفتحة ستقطف منها عاجلا أم آجلا ثمار الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية، أم صيف يتحمل فيه الغلابة من هذه الشعوب المقهورة مرة أخرى أكثر من غيرهم حمارة قيظه، وتنزلق مطالبهم مع الأيام كانزلاق العرق المتصبب من وجوههم المعفرة بالتراب والدماء أحيانا؟
لقد كتب لي هشام من الجزائر تعليقا على مقالي » من »طيّابات الحمّام » إلى »محضيات النظام » مايلي : « اسمحوا لي أن أخرج نوعا ما عن الموضوع لأسأل الصحافي المحنك بشير حمادي عن رأيه في الوضع القائم حاليا في ليبيا ؟
أطرح هذا السؤال لأن الكثير من الجزائريين والصحافيين خاصة انقسموا بين مؤيد لما يجري وبين رافض للتدخل الأجنبي ؟
هل يستطيع الأستاذ بشير حمادي أن يفك لنا هذه المعادلة، فأنا شخصيا لم أقدر أن أتخلف عن دعوة ثورة تحرر الشعب الليبي، لكن لا أقدر على قبول ما يقوم به الناتو الذي لا يمكن أن يثق أحد بأنه جاء من أجل مساعدة الليبيين على التحرر ؟
لم أجب عن سؤال الأخ هشام لسببين إثنين : أولا لأن السؤال جانب الموضوع الذي كان متعلقا بمتاعب مهنة المتاعب مع السلطة في الجزائر، وثانيا لأن الوضع الجديد في ليبيا معقد، صورته تكاد تكون بلا معالم، كنظام هذا البلد الذي هو « اللانظام »، وهو ماقد يجعل المرء يخطئ في تحليله خاصة عندما تتداخل العوامل الداخلية والخارجية.
وماشجعني اليوم على تناول الموضوع الردود التي خلفتها مواجهات الموقع مع الزملاء الذين زاروا طرابلس، واتضاح بعض معالم الصورة في هذه المدينة بالذات وفي غيرها من المدن الليبية..
وبدلا من التموقع مع هذا الطرف أو ذاك، أو الوقوف على الحياد السلبي أو الإيجابي، أفضل إثارة نقاش أتمناه واسعا وعميقا من خلال طرح مجموعة من التساؤلات قد تفضي الإجابة عنها من قبل عدد هام من الزملاء إلى مناقشة الموضوع من مختلف الزوايا، وتمكننا جميعا من فهم أحسن لما يدور في ليبيا وخلفيات وأبعاد ذلك عليها وعلى المنطقة بصفة خاصة والوطن العربي بصفة عامة، سواء بسط المجلس الإنتقالي سلطته على كامل التراب الليبي، أو ظلت المناوشات وعمليات الكر والفر قائمة في بعض المناطق.
وليس هذا تهربا من موقف مما يحدث في الوطن العربي، فقد كان موقفي واضحا منذ حرب الخليج الأولى والثانية، أي سابقا لانتفاضة البوعزيزي في تونس، ولشباب 6 فبراير وكفاية في مصر.
واقتطع مقطعا من مقال بعنوان « الضربة العسكرية الإستباقية..والضربة الديمقراطية الإستباقية » صادر في جريدة الشروق اليومي عدد يوم الإثنين 7 أفريل 2003 جاء فيه:
« ليس هناك من مفر إلا الديمقراطية، فالبلدان العربية أنظمة وشعوبا إذا ماأرادت أن تحافظ على كيانها، واستقلالها وثرواتها فليس لها خيار إلا الديمقراطية، وليست بالضرورة الديمقراطية الغربية، المهم أن يكون العدل أساس الحكم، وأن يحكم الشعب نفسه بنفسه. وحكم الشعب لايمنح ولايوهب، ولهذا لم يعد أمام الشعوب العربية التي تعذر عليها تنظيم حتى المسيرات السلمية الصامتة في شوارع بلدانها، حيث تتعرض للمنع والقمع إلا مواجهة الأنظمة الفاسدة وإسقاطها اتقاء سقوط القنابل العنقودية على رؤوسها وعمرانها الشاهد على عزة آبائها الذين لم يناموا على ظلم أو ضيم.
المعركة الحقيقية للشعوب بعد 20 مارس 2003 ليست مع أمريكا وبريطانيا وأنظمة ظالمة غاشمة ستقتدي بهما أو تبارك فعلهما ولو بالصمت من أجل الحق في الغنيمة المتمثلة في التعمير بعد التدمير، ولكنها مع الأنظمة الفاسدة والخائنة التي تضع مصالحها الخاصة فوق المصالح العليا للوطن والأمة، وتعرض أوطانها للدمار والخراب…ومثلما تقوم القوى الغاشمة بالضربة الإستباقية يتوجب على الشعوب أن تقوم بالضربة الديمقراطية الإستباقية وألا تنتظر من هذه الأنظمة ديمقراطية « بالقطارة » تحت أي مبررات أو أعذار. فالضربة الديمقراطية الإستباقية هي وحدها التي قد تجنب الشعوب والبلدان الضربة الإستباقية العسكرية ».
لقد تابعت مايحدث في البلدان العربية، ومايحدث لأنظمتها وشعوبها، وماتحدثه الشعوب، وماتقوم به الأنظمة، ومايحققه كل طرف على حساب الطرف الآخر، وما يحققه الطرفان للوطن وعلى حساب الوطن.
· عندما أشعل البوعزيزي النار في جسده ليشعل بذلك نارا في بلده أحرقت الرئيس زين العابدين بن علي وبعضا من حاشيته، قلت سبحان الله لقد أصبح الإنتحار أقوى من عرش الطغاة في البلدان العربية.. لم أصدق أن انتحار شاب قد يسقط نظاما بوليسيا يعد على الناس أنفاسهم، وعلى المسلمين في بلد مسلم حتى صلواتهم!
· وعندما أسقط شباب مصر الرئيس حسني مبارك الذي كان فرعونا بأتم معنى الكلمة، مطمئن كل الإطمئنان على أن وريثه في أملاكه قد يرثه في حكمه لمصر، قلت سبحان الله، هل هذا الشباب الذي قالوا عنه أنه « هايص ولايص ومائع وضائع وريوش… » يسقط نظاما مثل هذا النظام الذي كان يبدو أنه نظام فرعوني لاضعف يعتريه!
· وعندما استعصى على شباب اليمن، وحراك جنوبه، ومعارضته بكل أطيافها، والحوثيين، والقاعدة، والمتمردين من جيشه ونوابه ووزرائه، وشيوخ القبائل، إسقاط نظام صالح حتى بالصواريخ التي أحرقته وقدفت به خارج البلد، قلت سبحان الله كيف لانتحار شاب أن يسقط نظاما، ويعجز هذا الحشد الذي يمثل خلطة عجيبة عن إسقاط النظام اليمني!
· وعندما استعصى على شباب ليبيا وشيوخها من رفاق القذافي، وأقرب المقربين إليه، وماجمعوا حولهم، ومن تحالفوا معهم، تحرير طرابلس بالسهولة التي حرروا بها بنغازي، رغم كل ماقام به حلف « الناتو » من ضربات جوية لأهداف عسكرية وغير عسكرية المستعملة من قبل العقيد وأتباعه، قلت سبحان الله كيف يسقط نظام مبارك الأقوى عددا وعدة ودون مساعدة الحلف الأطلسي لشباب مصر ولايسقط نظام القذافي ـ عفوا اللانظام ـ بنفس السهولة!
· وعندما تنتفض حماه وحمص ودرعا ودير الزور واللاذقية ومدن أخرى، ويسقط الآلاف قتلى، ولايسقط نظام الأسد، لابد أن نتساءل كيف تسقط أنظمة تعتبر من أكثر الأنظمة موالاة وعمالة للغرب بكل سهولة، ولاتسقط أنظمة موصوفة بمحور الشر، ومصنفة على أنها مشجعة للإرهاب وتمثل خطرا على السلم والأمن الدوليين إلا بسفك الدماء وتدمير البلد!
تأملت في هذا « الربيع العربي » فإذا هو في جزء منه خريفا يسقط فيه البشر من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى اليمن إلى سوريا إلى البحرين كتساقط أوراق الخريف، وحتى الزهور التي تفتحت في تونس ومصر إذا لم تتم رعايتها وحمايتها فقد تدبل وتتساقط ولاتثمر..
وعندما اختلط الحابل بالنابل عندي، عدت إلى أمهات الكتب في السياسة والثورات لعلها تفيذني في فهم ماحدث ويحدث، فلم أجد في بطونها سوى ثورات « كلاسيكية » وانقلابات سميت ثورات، ليس هناك مايشبه ماتعيشه هذه المنطقة العربية، إلا من حيث فساد أنظمتها، فالأنظمة عبر قرون في هذه البقعة من العالم فاسدة ومستبدة، حكامها يعرفون كل الطرق والأساليب المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى الحكم ولايعرفون طريقا واحدا للخروج من الحكم، حتى وهم في أرذل العمر يستعملون حفاظات الأطفال حتى لايتبولون على أنفسهم، ويستمرون في التبول على مواطنيهم وأوطانهم..
وبقدر ماأعجبت بثورات شعبية حقيقية انتصرت واسقطت أنظمة مستبدة، بقدر ماتعجبت من ترك السلطة لغيرها، أوتعفف أبرز رموزها عنها مثلما حدث في تونس ومصر، وهو مايشجع فلول النظامين على استفزاز حتى أهالي الذين قدموا أرواحهم فداء لحرية شعبهم!
لم أجد ثورة منتصرة عاد ثوارها إلى بيوتهم، ورضوا بنفس الموقع الذي كانوا فيه قبل الثورة، أي موقع المطالب من سلطة أغلب متخذي القرار فيها هم أبرز رموز السلطة التي ثاروا عليها، تحقيق مطالبهم!
ثورات « الربيع العربي » الناجحة لاتتميز « بسلميتها » رغم ماسقط فيها من أرواح فحسب ولكنها تتميز كذلك بأنها ثورات تنتصر ولاتتسلم الحكم، وهي بالتالي تتحول بالتدريج إلى مايشبه المعارضة التي تعتمد مبدأ المطالبة والمغالبة، تنزل إلى الشوارع والميادين كلما دعت الضرورة لتطالب أو تغالب سلطة وإدارة لاعلاقة لها بالثورة وأهدافها، للضغط عليها والدفع بها لتحقيق بعض مطالبها!
ناقشت هذا « الربيع العربي » من جميع الزوايا مع الكثير من الزملاء، فازددت حيرة وشرودا لتعدد الآراء والمواقف والمنطلقات والأحكام، فظلت الكثير من الأسئلة معلقة تبحث عن أجوبة. لم يعد سؤال سائلي الذي بدأت به الموضوع هو الوحيد المعلق الباحث عن جواب فقد جر سؤاله أسئلة كثيرة في مقدمتها :
هل ما جرى في تونس ومصر خاصة ثورة سلمية رغم العدد الذي سقط من المواطنين قبل سقوط النظامين؟
هل ماجرى في البلدين ثورة بمعنى القطيعة مع نظام سابق وقيام نظام سياسي اقتصادي واجتماعي وثقافي جديد على انقاضه؟
هل المؤسسة العسكرية في البلدين محايدة أم حليفة أم شريكة في الثورة؟ وهل كان بالإمكان سقوط النظامين دون حياد أو انحياز الجيش للثورة؟
هل المؤسسة العسكرية في الوطن العربي متعددة الخدمات والصلاحيات، فهي تحمي الأنظمة الديكتاتورية، وتقوم بالإنقلابات، وتنحاز أحيانا للثورات؟
هل تسلم الجيش للسلطة هو سطو على الثورة وتأميم لها، أم قيادة منظمة لها لافتقادها لقيادة حقيقية منسجمة وقادرة على ايصال السفينة التي تتقادفها الأمواج إلى بر الأمان؟
هل دخول المتمردين على نظام القذافي باب العزيزية، وخروج القذافي منها، كان انتصارا لشباب حمل السلاح لأول مرة على جيش نظامي كان يعتبر من أقوى الجيوش الإفريقية، والأكثر تسليحا، أم هو انتصار لحلف الناتو؟ بمعنى هل بإمكان
مجموعات من المواطنين البسطاء، وحتى مايسمى « بالعرب الأفغان » هزيمة الجيوش العربية التي صرفت عليها الأنظمة العربية الملايير تدريبا وتسليحا من قوت الشعب؟
هل عدم نجاح الثورة في اليمن وسوريا عائد لوفاء المؤسسة العسكرية للنظام؟ أم لضعف المعارضة الشبابية والحزبية؟ أم لعدم تدخل الناتو بعد؟ أم للتباطؤ الذي تعرفه الثورات المنتصرة في تحقيق أهدافها؟
هل إسقاط نظام القذافي أوصالح أو بشار بالسلاح يؤدي بالضرورة إلى انتهاء الأزمة في هذا البلد أو ذاك، أم أن الأمر قد يكون مجرد انتقال من عنف إلى عنف آخرمثلما هو الأمر في افغانستان والعراق؟
هل الثوار المنتصرون بالسلاح سيقولون للمنهزمين « إذهبوا فأنتم الطلقاء » ويقيمون دولة القانون، أم أنهم سينتقمون من أعداء الثورة، ويجردونهم من حقوقهم وحرياتهم الأساسية، فيتحولون بالتدريج إلى مايشبه النظام الذي ثاروا عليه؟
هل ماحدث في ليبيا ثورة أم انقلاب قوى غربية على نظام حامل لبذور الفساد والسقوط،
أم أنها مؤامرة خارجية مندرجة ضمن مايسمى « الفوضى الخلاقة » و »الشرق الأوسط الجديد » لتقسيم الوطن العربي المقسم أصلا؟ أم أن هذا التفكير هو في حد ذاته مؤامرة على الثورات العربية هادفة إلى سلبها نقائها ووطنيتها وشعبيتها؟
أسئلة كثيرة ماتزال تستحق الطرح، لكنني أطلت، ولهذا أختصرها فيما يلي:
هل « الربيع العربي » فجر شعوب يحرق أو يفضح على الأقل أنظمة الإستبداد، أم مجرد غروب لرموز أنظمة بارعة في « استنساخ » رموزها الجديدة، والمحافظة على جوهرها؟
هل هو » ثورة..تمرد..حراك..احتجاج.. إرهاب..انقلاب.. مؤامرة؟ متمنيا أن تثير جدلا يسهم في فهم هذا « الربيع العربي » المتعدد الأسماء والأوصاف والساخن جدا..